كتاب وآراء

خديجة حمدي… أسطورة نسوية خالدة بين الفقد وخلود التاريخ

احمد مولاي حمة (الساسي)
اليوم فجرا استشهدت أمي… وفي مخيالنا الجمعي الثوري، لا يقدس الإنسان إلا بعد رحيله، إيمانا باستمرارية العهد وتقديسا لقيم الشهادة… نعم، تصبح الكلمات عاجزة وكسيحة في حضرة سيرة فكرية شامخة بحجم الراحلة خديجة حمدي، ولولا أن الموت أجل محتوم لجرفنا الحزن إلى متاهة الاعتراض.
خديجة حمدي… نموذج المرأة الصحراوية المثقفة، السياسية، المناضلة؛ كانت أما وأختا للجميع. ظل بيتها مفتوحا دائما للفقراء والمساكين والمشتكين، وللوافدين والزائرين والمغتربين… كان منزلها محجا للنخبة، وفضاء رحبا للنقاش والمناظرات وصناعة الأفكار وبناء الوعي الجمعي.
يقال إن وراء كل رجلٍ عظيمٍ امرأة؛ وفي حالتها لم يكن قولا فقط، بل فعلا وحقيقة: فقد كانت خديجة تلك المرأة التي وقفت وراء رجل عظيم مثل الرئيس الراحل محمد عبد العزيز؛ سندا ومستشارة ورفيقة درب مخلصة. لم تكن مناضلة طارئة نزلت بالمظلة، بل نشأت وترعرت في حضن عائلة مناضلة؛ والدها، حمدي عند الله، كان من أوائل مَن تحول بيتهم إلى منارة للنقاشات الثورية والتنسيق وتعبئة الجماهير في جاليات الشمال قبل التأسيس وبعد التهجير، حتى صار إلهاما للمناضلين ومهدا للمقاومة.
خديجة حمدي ظلت وستظل رمزا للمقاومة النسوية، وللهوية الصحراوية المثقفة المبدعة؛ إلياذة الكلمة المناضلة، وسيدة فنّ الخطابة، وقائدة القصة القصيرة. ألّفت كتبًا خالدة مثل «مرافئ الرمل» و«الرحيل نحو الشمس»، وكانت ناقدة لاذعةً في دفاعها عن قضيتها، ومن أجرأ ما كتبت مقالها الشهير: «لماذا تمغربها يا شاعري الكريم؟».
كانت سياسية بحجم امرأة دولة؛ أبدعت في كل المهام التي أسندت إليها، من اتحاد النساء ومركز الشهيدة النعجة، وصولًا إلى وزارة الثقافة الصحراوية التي حوّلتها، بفضل رؤيتها ونضالها، إلى مؤسسة ذات بُعد أكاديمي وثقافي. وبفضل جهودها، صنف التراث الصحراوي ضمن التراث الإنساني في اليونسكو باسم الصحراء الغربية، وانهمكت مع رفاقها في تدوين التراث المادي واللامادي، وتوثيق الدواوين الشعرية الحسّانية، وترجمة بعضها إلى لغات أجنبية، وحماية التراث الأركيولوجي.
ولم تتوقف عند ذلك؛ بل ارتقت بالفن والثقافة الصحراوية إلى العالمية عبر مهرجان السينما ومهرجان «آر تفاريتي» للفن المقاوم، لتفتح آفاق التضامن الدولي وتسلط الضوء على الوجه الثقافي للصراع. وبفضل رؤيتها الثاقبة وبعد نظرها، كانت جسرا للتقارب الثقافي مع مجتمع البيظان، ومع الجزائر وإفريقيا.
كما كانت دبلوماسية بارزة وسفيرة متميزة للثقافة الصحراوية، حيث أثرت حضورها من خلال زياراتها ولقاءاتها السياسية والدبلوماسية في العالم العربي وإفريقيا، فضلا عن أوروبا وأمريكا اللاتينية. وفي عهدها، شهدت وزارة الثقافة الصحراوية تطورا نوعيا وارتقاء ملحوظا، تجلى ذلك في ازدهار الإبداع الثقافي والسياسي والفني و الشعري، وبروز الفرق الموسيقية والفنية التي حققت شهرة واسعة خلال تلك الفترة.
 نعم، إنها خديجة حمدي… الأسطورة النسوية الخالدة التي وإن رحلت اليوم جسدا، ستظل حية بيننا بفكرها وإبداعها وتاريخها المشرّف؛ وستظل حضارة لا في ذاكرة الشعب الصحراوي فحسب، بل في ذاكرة الإنسانية جمعاء.
ومهما نطقت الكلمات أو حاولت أن توفيها حقها، ستظل قاصرة أمام عظمتها؛ فما لنا إلا أن نزفّ لها أصدق عبارات الوفاء والتقدير في رحلتها الأبدية.
«الإنسان فنفسه لبغى … والتاريخ امام الشعوب … سيموت الفرد ويبقى … عاكب ذاك التاريخ إنوب.»
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق