دار المخزن إلى أين ؟
إذا كانت محددات نمو الدول تعتمد بالأساس على المؤشرات الاقتصادية و الإجتماعية و القدرة الشرائية للمواطنين و الدخل الفردي ومؤشرات التنمية البشرية ، فإن هذه المعايير تُعد جد متدهورة في المغرب خاصة في السنوات القليلة الماضية ، و بالتأكيد ستتضاعف هذه الازمة مع ارتفاع أسعار الطاقة على المستوى الدولي و التداعيات الاقتصادية التي خلّفتها موجة وباء كورونا و التطورات الاقليمية في ظل قطع العلاقات بين الجزائر و المغرب وعودة الحرب للصحراء الغربية بعد 13 نوفمبر 2020 ، بالإضافة طبعاً للحرب الروسية – الاوكرانية وانعكساتها الإقتصادية على المستوى الدولي .
– الوضع الإقتصادي .
المتابع لتطورات الوضع الاقتصادي و الاجتماعي في المغرب عادة ما يصل لاستنتاج واحد يتمثل في أن الأوضاع تسير نحو تصاعد الازمة ، ما قد يؤثر على الإستقرار السياسي داخل المغرب ، وهذا يتضح من خلال القرارات التقشفية التي اتخذتها مرغمةً الحكومة المغربية ، بتوجيهات مباشرة من صندوق النقد الدولي الذي يراكم القروض في خزينة البنك المركزي المغربي محاولاً إنعاش اقتصاد المغرب المتدهور أصلاً بسبب الفساد و تكديس الثروة في يد أقلية حاكمة ، حيث وصل الدين الخارجي ل 124 مليار دولار ، ما فرض اتِباع إجراءات تقشفية قاسية ، إلا أنها لم تحسن من الوضع العام الإقتصادي و الإجتماعي .
ولاتزال القطاعات الإقتصادية الحيوية في المغرب تواجه تحديات كبرى ، كقطاع السياحة و الصيد البحري و الفوسفاط و الفلاحة والخدمات ، بالإضافة للأنشطة التخريبية الأخرى كتجارة المخدرات . فقطاع السياحة تأثر بشكل كبير بسبب تداعيات كورونا وغلق الأجواء ، ما دفع ببعض الفنادق لإعلان إفلاسها خاصة بمدن الدار البيضاء و مراكش . ورغم أن الحكومة المغربية حاولت إنعاش هذا القطاع من خلال تدعيمه ماليا إلا أن ذلك التدخل لم يؤثر بشكل كبير ، حيث يعتبر قطاع السياحة من القطاعات الحيوية التي يستثمر فيها المغرب ، ولعل إنكار المغرب لوجود حرب في الصحراء الغربية يبقى سببه الأساسي التخوف من انهيار قطاع السياحة من جهة ، و انسحاب الاستثمارات الاجنبية من المغرب و الصحراء الغربية من جهة أخرى .
أما قطاع الصيد البحري فإن نسبة كبيرة جداً من مداخيله تعتمد على ما يتم نهبه من المياه الإقليمية للصحراء الغربية ، حيث أن هذا النهب مُهدد بشكل مستمر و يواجه تحديات قانونية مصيرية بالنسبة للمغرب ، في ظل وجود المعركة القانونية داخل أروقة الإتحاد الأوروبي ، الشريك الاقتصادي الاول للمغرب ، وهي معركة تقودها جبهة البوليساريو داخل المحاكم الأوروبية لإلغاء الإتفاقيات الإقتصادية الموقعة بين الإتحاد الأوروبي و المغرب ، خاصة تلك التي تشمل الصحراء الغربية في مجالات الصيد البحري و الفلاحة و الطاقة المتجددة ، وإلى الآن يبقى حكم محكمة العدل الأوروبية هو الأساس الذي يهدد هذه الاتفاقيات ، بالإضافة أن هذا الحكم القضائي ، الذي أكد بأن المغرب و الصحراء الغربية بلدان منفصلان ، سيهدد القطاعات الاخرى كقطاع الفوسفاط ، حيث يتم ملاحقة السفن الناهبة لهذه الثروة في عدة دول تعتمد عليها شركة OCP ( المكتب الشريف للفوسفاط ) كمستورد لهذه الثروة ، أو دول أخرى تعتبر موانئها منطقة عبور نحو المستوردين .
من جهة أخرى يشهد قطاع الخدمات و خاصة النقل و المواصلات ارتفاعاً مهولاً في الأسعار ، وذلك بسبب ارتفاع ثمن المحروقات و الطاقة بشكل عام على المستوى الدولي ، ولكن يعود ذلك بدرجة أكبر لجشع الشركات المتحكمة في المحروقات داخل المغرب ، فمن المُلفت ارتفع معدل أرباح هذه الشركات رغم الأزمة الإقتصادية التي يمر منها المغرب . ويعتبر عزيز أخنوش إبن عائلة ثرية من منطقة سوس و الرئيس الحالي للحكومة المغربية _ وصديق الملك_ أهم مستثمر في قطاع الطاقة خاصة المحروقات التي يملك أخنوش أغلب أسهم شركاتها ، بالإضافة لاستحواذه على قطاع الفلاحة و الصيد البحري في المغرب ، حيث تضاعفت ثروة الرجل خلال السنوات الثلاث الماضية ، رغم الوضع الاقتصادي الكارثي الذي يمر منه المغرب ، في ظل انعدام الخيارات الاقتصادية البديلة ، بالإضافة لما خلفته خطوة الجزائر بعد قطع علاقتها بالمغرب وتأثيرات ذلك القرار اقتصاديا ، خاصة وأن الغاز الجزائري كان يغطي أكثر من نصف احتياجات المغرب و بأسعار تفضيلية ، دون إهمال حصة الجيش المغربي من المحروقات والتي تضاعفت بعد 13 نوفمبر 2020 .
و تأثَّر تهريب المخدرات بعودة الحرب للصحراء الغربية ، حيث تقول المعلومات الأمنية أن عصابات التهريب المغربية كانت تراكم دفن أطنان مخدر القنب الهندي المعالج بمناطق جنوب المغرب و المدن المحتلة في محاولة لإيجاد الوقت المناسب لعبوره من الجدار في اتجاه الشرق نحو دول الساحل و الصحراء ليتجاوز ذلك نحو ليبيا و مصر ، إلا أن هذه المحاولات بائت بالفشل بسبب الحرب و الأقصاف التي تستهدف الجدار ، ما دفع بتلك العصابات للتزاحم على ثغرة الكركرات نحو السوق التي تدخل في مجال نفوذ المافيا الإيطالية ، و بالتالي الرفع من حجم الكميات المهرَبة عبر تلك الثغرة كخيار بديل ، بالإضافة لزيادة حجم التهريب من شمال المغرب نحو أوروبا وهي سوق تسيطر عليها المافيا الإسبانية و البرتغالية .
ويواجه البنك المركزي المغربي هو الآخر الانهيار بفعل ارتفاع التضخم و تراكم الدين الخارجي ، وهو ما دفع بالسلطة في المغرب للرفع من نسبة الفائدة إلى 2 فالمئة ، ما معناه ارتفاع نسبة فوائد البنوك المغربية خاصة في ما يتعلق بالقروض الصغرى التي يلجأ لها المواطن المغربي سنويا ، وبتالي سيزيد هذا القرار من تأزم القدرة الشرائية للمواطنين خاصةً الطبقات المتوسطة في المغرب التي تعتمد على القروض السنوية لاقتناء أساسيات الحياة خاصة في الأعياد الدينية وشهر رمضان و الدخول المدرسي .
قرار رفع نسبة الفائدة ل2 فالمئة لن يؤثر فقط على الطبقة المتوسطة في المغرب ، بل سيتجاوز ذلك للشركات التي تستثمر في المغرب سواء كانت أجنبية أو تلك التابعة للمقاولين المغاربة ، خاصة مع ارتفاع ثمن الدولار الذي تتعامل به الشركات العاملة في المغرب مع السوق الدولية لاستراد المحروقات و عدد من المواد الغذائية الأساسية ، وهي عوامل كلها ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار في كافة مناحي حياة المواطن المغربي ، فقد تجاوزت نسبة ارتفاع الأسعار ، حسب مختصين ، 60 فالمئة ، ما ستكون له انعكاسات على الشارع المغربي قد تتطور لاضطرابات تهدد ” الاستقرار السياسي ” المزعوم .
هذا الوضع الإقتصادي أثر بشكل كبير ولأول مرة على المخيمات الإستطانية في الصحراء الغربية ، فقد خرج سكان هذه المخيمات ، التي هي عبارة عن مدن صفيح ، للتظاهر بعد تراكم السياسات التقشفية التي تم من خلالها تقليص الدعم الموجه للمستوطنين ، وهو دعم كانت تقدمه الدولة لهم بشكل مجاني ( زيت – سكر – طحين – أضاحي العيد – ملابس – حفاظات الأطفال … ) .
– الوضع السياسي ( من يحكم من ؟ ) .
يعتبر الوضع الكارثي الذي يعاني منه المغرب اليوم ، اقتصادياً و اجتماعياً ، نتاجاً طبيعياً لسياسات داخلية قمعية منذ الاستقلال الشكلي لهذا البلد سنة 1956 ،بالإضافة لسياسة خارجية تتسم بالعدوانية اتجاه محيطه الاقليمي ، وهو صنيع نخبة دار المخزن التي تتحكم في كل شيء داخل مملكة الصمت .
فمملكة الصمت تعمل منذ 1956 على صناعة الأحزاب التي تولد أمام أبواب دار المخزن ، وهي أحزاب يطلق عليها في المغرب ” الأحزاب الإدارية ” . ورغم أن تغول المخزن كان هو السائد إلا أن هذا لم يمنع المغاربة من تأسيس أحزاب و تجمعات معارضة شكلت خطراً حقيقيا على نظام الحُكم في المغرب كالاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي أسسه بن بركة والذي تم اغتياله ستينيات القرن الماضي بتعاون من جهاز الموساد ، بالاضافة لحركة إلى الأمام التي ظهرت بداية السبعينيات والتي عبرت عن دعمها لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير وتم قمعها ومحاصرة نشاطها داخل الجامعات واغتيال بعض قياداتها داخل السجن .
ورغم هذا المجهود الذي حاولتْ من خلاله ثلة من النخبة المغربية قلب النظام الحاكم ، إلا أن المخزن اكتسب خلال هذا الصراع خبرة في التعامل الأمني و السياسي مع الاحزاب التي تناقضه هو و أحزابه الادارية ، فأصبح اليوم المغرب خالي تماما من المعارضة الجادة الريديكالية باستثناء حزب النهج الديمقراطي العمالي ، مع الأخذ بعين الاعتبار قوة الاسلاميين الريديكاليين الذي تمثله حركة العدل و الاحسان المحظورة في المغرب .
و تبقى الحكومة في المغرب لا تحكم ، حتى أن المغاربة أصبحوا ينادونها “بالمحكومة ” كإشارة أن الحاكم الفعلي و الحقيقي بشكل واضح ، وحتى بموجب نص الدستور هو الملك ، فهو رئيس الدولة و القائد الاعلى للقوات المسلحة و القاضي الاول في البلاد و ” أمير المؤمنين لكل الديانات ” ، بالتالي ماذا تبقى للحكومة و البرلمان ليحكموا ؟ ولماذا المغاربة يصوتون كل أربع سنوات على حكومة جديدة ؟ وما دامت الحكومة لا تحكم و الملك ومحيطه هو الحاكم الفعلي وهو رئيس الدولة و المسيطر على كل السلط ، لماذا الانتخابات إذن ؟ . هي كلها أسئلة لن تجد لها إجابة منطقية في المغرب ، كما أنها أسئِلة تفسر كيف تسير الأمور في المغرب .
وفي المغرب ينبني كل شيء على الشكل فقط ، فالاحزاب موجودة بإيديولوجيات مختلفة يساراً و يميناً و وسط ، وذلك بهدف تسويق صورة للخارج مفادها أن المغرب يتوفر على تعددية حزبية ، ولكن الحقيقة أن كل ذلك مجرد شكل ، وكل الأحزاب تسبح بحمد دار المخزن سراً و علناً . و في العاصمة الإقتصادية الدار البيضاء و العاصمة الإدارية الرباط قد تنبهر أحيانا بشكل البنايات و الطرق ، ولكن كل ذلك مجرد شكل في دولة تصنف في المرتبة 123 في تصنيف مؤشر التنمية البشرية الذي تصدره الامم المتحدة سنويا ، حتى أن دولاً تعيش حروب و أزمات كالعراق و ليبيا وفلسطين ، ودول تعيش أزمات اقتصادية خانقة كتونس ، التي تعتبر مواردها الإقتصادية أضعف من المملكة المغربية ، تفوقت كلها على المغرب في تصنيف التنمية البشرية لسنة 2022 ، بل أن المغرب متقدم بدرجة واحدة عن سوريا التي انهارت بفعل سنوات الحرب الداخلية ، ورغم كل هذا لازال المغرب يقدم نفسه كقوة إقليمية ! .
اليوم يرأس الحكومة / المحكومة رجلٌ من أثرياء المغرب يدعى عزيز اخنوش وهو الأمين العام للحزب الإداري المسمى ” التجمع الوطني للأحرار ” ، وهو حزب أسسه أحمد عصمان صهر الحسن الثاني و موقّع اتفاقية مدريد الثلاثية التي قسمت الصحراء الغربية بين المغرب و موريتانيا و إسبانيا سنة 1975 ، حيث صعد “حزب الاحرار ” للحكومة سنة 2021 بعد سقوط الاسلاميين ” العدالة و التنمية ” ، و انتهاء صلاحية ورقة الاسلاميين التي تجاوز بها المخزن موجة ما يسمى الربيع العربي ، فوّقع بهم اتفاقية التطبيع مع إسرائيل وتم وضعهم على الهامش .
وعادة ما تستعمِل دار المخزن الحكومة التي لا تحكم كمنشفة عند الأزمات ، فرغم أن كل رؤساء الحكومات التي تعاقبت على المغرب يقولون أن ” برنامجهم هو برنامج الملك ” ، إلا أن التجارب أثبتت ظهور الملك و أدواته الاعلامية لتحميل المسؤولية في الازمات للحكومة رغم أنها مجرد جهاز مساعد للملك ، الأخير هو من يحدد السياسات الداخلية و الخارجية بتوجيه من قوى خارجية حليفة له ، و يعين الوزراء خاصة في الوزارات السيادة كالداخلية و الخارجية بالإضافة للسفراء و جنيرالات الجيش وضباطه ، و الدرك الحربي ومسؤولي الأمن الخارجي ” لادجيد ” و الداخلي ” ديستي ” ، بالإضافة للولات و العمال و القياد على مستوى المدن و القرى .
و تقول المؤشرات أن المخزن استنفد كافة أوراقه / المنشفات ، ولم يتبقى لدار المخزن الكثير من الأوراق ليقفز بها على الأزمات ، فخلال نهاية تسعينيات القرن الماضي قام النظام باستخدام اليسار وسلمه الحكومة / المحكومة لاعطاء انطباع أن المغرب أصبح بلداً جديداً ويمر بمرحلة انتقالية سميت ب ” العهد الجديد ” ، ولكن السنوات أثبتت أن كل ذلك مجرد شكل ولم يتغير الكثير في الجوهر .
بعد عشر سنوات تقريبا وتحديدا سنة 2010 و 2011 ، خرجت المظاهرات في المغرب تزامنا مع ما يعرف ب ” الربيع العربي ” للمطالبة بالاصلاح ، وتطورت المطالب حتى وصلت لمطلب إسقاط النظام ، فخرج محمد السادس في خطاب ليقول أنه سيُغير الدستور و سيجري إجراء انتخابات جديدة ، فتم بعد ذلك استخدام منشفة الاسلاميين الذين كانوا في المعارضة لسنوات ، وحكم الاسلاميون المحكومة لمدة عشر سنوات ، تميزت بعدة اضطرابات خاصة مظاهرات الريف و جرادة و مسيرات الاساتذة الذين فُرض عليه التعاقد ، واعتقال الصحفيين المعارضين .
ورغم هذه الاضطربات ، استنتج النظام أن منشفة الاسلاميين يجب تغيرها فلم يجد حزباً معارضاً يخادع به القصر الشعب المغربي لعشر سنوات أخرى ، فتم اللجوء لحزب إداري كان مشاركاً في أغلب الحكومات الشكلية التي تعاقبت على المغرب ، وهو حزب أخنوش ” التجمع الوطني للأحرار ” ، لأن المخزن لم يجد البديل ، فصعد هذا الحزب سنة 2021 للحكومة ، فزادت الأزمات و تضاعف غلاء الأسعار ، وأصبح المغاربة اليوم يوجّهون خطابهم للملك بشكل مباشر و يحملونه المسؤولية ، وهي مرحلة وعي متقدمة من الشارع المغربي رغم أنها متأخرة ، وتأخرها يعود بالأساس لقوة الإعلام المغربي وقدرته ، في السنوات الماضية ، على التحكم في النقاش العام .
_ استنتاج :
بالرجوع للمؤشىرات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية السالفة الذكر فإن الجميع اليوم لا يستبعد انفجار الوضع داخل المغرب في أي لحظة ، خاصة في ظل فشل تعرفه كافة القطاعات الإقتصادية الأساسية ، وهذا له انعكاسات على السياسة الخارجية للمغرب ظهرت في الإرتباك الذي تعيشه ديبلوماسية دار المخزن ، بالإضافة لاستنفاد كافة الأوراق ( الأحزاب المعارضة ) التي كان يستخدمها المخزن كأداة إطفاء وقت الأزمات ، و تزايد الوعي عند عموم المغاربة بأساليب الخداع التي يوظفها المخزن للتحايل و كسب مزيد من الوقت ، والأهم من كل هذا هو عودة الحرب من جديد للصحراء الغربية وانعكاس هذه الحرب اقتصادياً على المغرب مع مرور الوقت .
بقلم : امبارك سيدأحمد مامين.