الخالدون المنسيون، سيدي ولد سيدي موسى مرة أخرى. الجزء الثاني

في الأسر:

كان وجود الشهيد : سيدي/سيدي موسى ضمن الأسرى مفاجأة من العيار الثقيل بالنسبة لكثير من الجنود الموريتانيين الذين كانت لهم سابق معرفة به. و بالرغم من حقدهم وعدوانيتهم تجاه الأسرى الصحراويين إلا أن سيدي بمهابة كانت تدفع كل الحراس إلى معاملة الشهيد سيدي باحترام. وكان كل حارس ينصح زملاءه بمعاملته بلطف. حرص الجنود الموريتانيين الذين لهم سابق معرفة به على أن يعامله بقية الجنود والحراس معاملة إنسانية مما دفع الجنود الموريتانيبن إلى السؤال عن سر الرجل؛ من يكون سيدي هذا؟ ولماذا كل هذا الحرص في معاملته؟
فيجيبهم من عرفوه وخبروه؛ هذا سيدي ول سيدي موسى رجل المواقف و الكرم و الصدق و النزاهة. سيدي ما عندو مثل ولا شبيه فالجود ماهُ حاتم الطائي. وتتناسل الأسئلة والقصص عنه وحوله لتقف عند التساؤل؛ يغير راجل أمعدّل ومطّابق ذا نبتو أخبارو من ذو أمگاصير لَعْمارْ. كان يصعب عليهم استيعاب وجود الرجل في الجانب الخطأ، جانب “الأشرار”. لكن في النهاية يتغلب المنطق والعقل لتهتز قناعات من عرفوه من الموريتانيين بمدى “عدالة موقفهم”؛ “قَطْعاََ عَنُ سيدي ماهُ لَاهي إدِيرْ راسُو أفْشِ ماهُ شي مَطَّابَقْ وُ أعْلَ بابُو وُ مْسَگَمْ”.
كان الحراس يتسابقون في كسب ودّه، بعضهم كان يمده بسجارة في خفية ومن يتولى منهم تقييده كانوا يحرصون على عدم شد القيد على يديه ورجليه.

رغم أننا، نحن أسرى لگويرة، شاركنا أسرى إينال نفس السجن وهو “سجن جيني” حيث قضينا أسابيع عديدة تعرضنا فيها للكثير من التعذيب والاستنطاق إلا اننا في الواقع لم نر أسرى إينال ولم تجمعنا بهم لا الزنازن ولا باحة السجن الذي سبقونا إليه بتسعة أيام.
وفي صبيحة يوم 19/يناير/1976م دخلت علينا فصيلة من الجنود و أخذوا بتعصيب أعيننا و جرنا الي شاحنة عند باب السجن و أخذوا يرموننا واحدا تلو الآخر في حوض الشاحنة. وفي الشاحنة فقط شعرنا أن هناك مجموعة أخرى من الأسرى لا نعرف من أمرهم شيئا ولا يعرفونا عنا أي شيء. أخذت الشاحنة في السير في طريق مملوء بالحفر والمطبات إلى أن دخلت طريقا معبداََ لم تمكث فيه طويلا إذ توقفت و أخذ الجنود في إنزالنا وجرنا ثم رمينا في جوف طائرة. الطائرة التي أقلعت وحطت بنا في مدينة عرفنا فيما بعد أنها “عيون العتروس”. أنزلنا جنود من الطائرة وأخذوا في جرنا مجددا إلى شاحنة مكشوفة و أخذت تسير في طريق غير معبد إلى أن وصلت مدخل المدينة الذي كان سكانها يقفون على مشارف الطريق بمحاذات الشارع الرسمي. المنظر لم نره لأننا كنا معصوبي الأعين لكن شتائم الحشود وسبابها كان يصل آذاننا قويا صاخبا. و الغريب في الأمر أنهم كانوا يتعجبون كوننا بشر و لنا وجوه كوجوههم وملامح بشرية كملامحهم! سبحان الله هذو بشر كيفتنا. شوفو روسهم شوفو أوجاهم وأيديهم..هذو قطعا بشر! (من الواضح أن النظام الداداهي كان يشيطن مقاومتنا ويصورنا وحوشا)؟.
رافقتنا شتائم الحشود الحانقة الغاضبة حتى دخلنا ما اتضح لنا فيما بعد أنه بناية ضخمة سميكة الجدران من مخلفات العهد الاستعماري الفرنسي، هي سجن عيون العتروس.
أخذ الجنود في نزع العصابات التي تغطي أعيننا و أخذوا بتوزيعنا على الزنازن و كانت الزنزانة التي سنتعرف فيها بعضنا على البعض تضم 15 أسيرا بعضنا من إينال و البعض الآخر من لگويرة و إثنان من مدينة أنواذيبو الموريتانبة.
كنت من المحظوظين الذين شاء القدر أن يجمعنا مع الشهيد سيدي ول سيدي موسى في زنزانة واحدة. وكانت تلك اللحظة هي أول مرة أرى فيه الشهيد سيدي رأي العين.
…يتبع…
بقلم: النخ محمد إبراهيم