تتمدد حدود الدول طبقا لطول شعاع دائرة قواها المؤثرة: عسكرية كانت أو تجارية أو اقتصادية أو سياسية وغيرها.
الحرب العالمية الأولى والثانية كانت بسبب الهيمنة على المستعمرات التي هي في النهاية عبارة عن جلب المال نحو المستعمرٍين من الدول المستعمَرة بفتح الميم أو المستدمرين كمصطلح أحق.
دروس التجارب مع ألمانيا كانت مريرة، حيث يتم التعامل مع قوتها بالرفض من الدول العظمى المنافسة، التآمر عليها وهزيمتها في الحربين العالميتين السابقين وقدرتها على العودة والرجوع مرة أخرى الى المستوى الأقوى شكل استنتاجا ودرسا وظاهرة عمل الجميع على التسليم بها والبحث عن مخارج لها غير أنها تبدو اليوم مخارج مؤقتة.
الرجوع الألماني هذه المرة عاد باليد في اليد مع فرنسا الغريم التاريخي وبلحمة في 27 دولة هي الاتحاد الأوروبي الذي بنته الوحدة “حلم تاتشر-فراسوا” رئيسة الوزراء البريطانية والرئيس الفرنسي الحالمان والحقيقة أن الوحدة كانت لحماية أوروبا من الحروب المدمرة والرقي الاقتصادي والتفاهم السياسي.
“لم يضع الاتحاد الأوروبي بادئ الأمر أية شروط إضافية لانضمام الدول المرشحة للعضوية ما عدا الشروط العامة التي تم تبنيها في الاتفاقيات المؤسسة للاتحاد. لكن الفرق الشاسع في المستوى الاقتصادي والسياسي بين دول أوروبا الوسطى والشرقية ودول الاتحاد دفع مجلس الاتحاد الأوروبي في عام 1993 ليضع ما يعرف شروط كوبن هاجن:
شروط سياسية: على الدولة المترشحة للعضوية أن تتمتع بمؤسسات مستقلة تضمن الديمقراطية وعلى دولة القانون وأن تحترم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات.
شروط اقتصادية: وجود نظام اقتصادي فعال يعتمد على اقتصاد السوق وقادر على التعامل مع المنافسة الموجودة ضمن الاتحاد.
شروط تشريعية: على الدولة المترشحة للعضوية أن تقوم بتعديل تشريعاتها وقوانينها بما يتناسب مع التشريعات والقوانين الأوروبية التي تم وضعها وتبنيها منذ تأسيس الاتحاد.
حدود الولايات المتحدة الامريكية مثلا ليست في رقعة الأرض في شمال القارة الأمريكية بل يدها وأصابعها وضرباتها في أفغانستان والعراق بالقارة الآسيوية وفي دول الساحل الأفريقية تنشئ قواعد متزايدة باطراد، وليس خافيا تأثير جزيرة بريطانيا في الميزان التجاري الدولي.
إنها الظلال فكلما طالت أبراج القوى امتدت أطوال ظلالها، فالشلالات العالية المرتفعة لا بد من أن تنتج الطاقة الأكبر.
الحق الألماني أو حق القوة لم يسقط بالتقادم ولا بالمؤامرات على تقسيم ألمانيا بين الاتحاد السوفييتي والحلف الأطلسي، بل عاد بعد سقوط جدار برلين ونمت العضلات الاقتصادية الألمانية المندفعة بلا كابح بل تتعلق فيها كل دول الجوار وتقود مجموعة الاتحاد الأوروبي في القرن الواحد والعشرين في قوة ذاتية بلا ضغوط في عالم السوق الحديث الذي تسوق فيه المانيا أكثر من 65% من منتجاتها داخل الإتحاد الأوروبي نفسه.
خروج بريطانيا مهد لها الطريق أكثر من ذي قبل وصارت القوة القائدة ولا ادل على ذلك هو بدأ زيارة الرئيس الفرنسي الحالي بعد تنصيبه بأول خروج له بزيارة ألمانيا تلك الزيارة التي لها ما لها من الدلالات السياسية حيث أكد على أن مشروعه في عهدته سيبدأ من ألمانيا كأهم بلد لديه وتلك إشارة بالغة الأهمية لأكبر دولة في الإتحاد الأوروبي وعرفانا بالريادة الألمانية واعترافا ضمنيا بقوتها العالمية.
ولسنا هناك في مجال سوق البراهين على قوة ألمانيا وسياساتها في مختلف المجالات ولا رقيها واحترامها لدى العالم ولكننا نتحدث عن مصالح ألمانيا وحقها كقوة دولية في فتح أسواق جديدة مثلها ككل الدول بطرقها الخاصة والتي تعتمد على مصدر قوتها وهو القانون الدولي والديمقراطية والشفافية.
كان تبني المانيا الدخول الى مشكل الصحراء الغربية من الباب الواسع هو بداية رأس الخيط في البحث الحثيث عن موطئ قدم في المساحات الباقية من العالم التي لم تقرر مصيرها بعد.
قبول الرئيس الألماني كولر منصب المبعوث الشخصي للأمم المتحدة في الصحراء الغربية كان مشروطا ومحددا.
حيث اشترط:
-نقل مقر العمل الى مكان يختاره هو بنفسه: وفي ذلك دلالة على جدية الرجل في نسج خططه بعيدا عن العين المراقبة أن لم نقل المتجسسة أو المتلصصة، وتعني تلك الخطوة أيضا أن هناك من كان يفسد الامور في المهد، وبالتالي تامين العمل، وينظر الى ذلك أيضا من زاوية حرية اتخاذ القرار وحرية طرح الخطط وبنائها دون إشراك الغير.
وبالتالي رفض الضغوط والابتعاد عن تأثير القوى التي ظلت تريد كلها ان تضع اليد في العجين ليتشتت ويفسد القالب.
-طائرة خاصة: وهي حرية الحركة، في كل الاتجاهات الاختيارية، وتحديد توقيت الحركة، فحينما اعرف حركتك وبرنامجها أخمن أهدافك، كما يساعد في سرعة اتخاذ القرار وجمع المعلومات والاتصال المباشر مع المعنيين دون اللجوء الى استخدام وسائل الاتصال
السمعية أو البصرية والكتابية المعرضة للقرصنة وغير ذلك.
-فريق العمل: الإشراف المباشر من كوهلر نفسه في اختيار فريق عمله وهو ما يجعله صاحب القرار الأول والأخير أي النهائي كما انه يعكس حرصه على إنجاح العمل ويعني تحمل المسؤولية المباشرة في فشل العملية، كما يتيح له فصل أو إبدال أي شخص دون تحكم أي كان وهو ما يمده بعامل الفعالية يريد أن يكوّن أوركسترا منسجمة يضبط عليها إيقاعه الخاص بدل أن يصير هو الدمية التي يراقصها شد الخيوط من هنا وهناك.
-الميزانية: طلب كوهلر ميزانية كافية خاصة بكل العملية وتغطي كل الاحتياجات.
يريد أن تسير الامور دون أي ضغوط مالية من أي كان.
خلاصة كل ذلك هو العمل دون أي ضغوط والتخلص من أي تدخلات وبالتالي الحرية التامة في التفكير وإبداع الخطط، ويبقى ذلك فقط هو الشغل الشاغل لا أن يجر الى معارك جانبية.
بكل أريحية تم الاتجاه الى المفاوضات التي بدت أنها ستؤدي لا محالة الى صناديق الإقتراع وأخيرا الى السلام وهو اختيار الشعب الصحراوي الذي ستكون النتيجة مضمونة وهو استقلال الشعب الصحراوي وحريته.
كان الربح الألماني بينا وواضحا وهو فتح سوق جديدة في العالم خارجة عن إطار القوى المهيمنة وبالتالي انتزاع الأرض الجديدة من أظافر الهيمنة والصراع بين دول مجلس الأمن وبالتالي سيادة الدولة الصحراوية التي بطبيعة الحال ستكون ممتنة للدور الألماني قبل غيره وكان المتوقع من ردة فعل الدول الكبرى هو الرفض القاطع والصارم وإقالة كولر والإبقاء على وضعية الاحتلال المغربي والتجاوز البين لكل المواثيق والقرارات الدولية كقوة احتلال لا شرعي.
ضربة قاصمة لأول خروج ألماني من اجل البحث عن اصطياد ولاء مستعمرة ستكون له تبعاته خاصة بعد تعهدات كبرى لشخصية المانية متزنة كانت قد خططت أصلا من بين من خططوا للوحدة الألمانية الرئيس الألماني السابق “كولر”.
ربما درس التاريخ بدأ يطل برأسه من جديد “لا مكان لألمانيا في تقاسم مناطق النفوذ” وسيكون الرد الألماني المعهود بأدوات اليوم وأسلوبه وبمصطلحاته “لن يقف أحد في وجه القانون الدولي” وبعبارة أخرى ضد مصالح ألمانيا القوية والمطالبات الألمانية المتواصلة بمقعد في مجلس الآمن تفشي وتكشف القناع بكل وضوح عن الوجه الجاد لألمانيا اليوم.
شواهد المرحلة القادمة ربما بدأت بالحركات الألمانية في الدعوة الى انعقاد اجتماع مجلس الأمن بعد اعتراف “ترامب” بمغربية الصحراء الغربية” وردود الفعل المغربية بإيعاز من تلك القوى هذه الأيام التي هي انعكاس وردة فعل للتوجه الألماني الجديد المخفي منه ربما أكثر من الذي ظهر.
التقارب الجزائري الألماني مقابل التنافر الجزائري الفرنسي، الجزائر والدول القوية الإفريقية مفاتيح القارة تبحث عن مقاعد في مجلس الأمن للمنظمات القارية كالقارة الإفريقية التي تطالب بمقعدين في مجلس الأمن كما تطالب ألمانيا بمقعد للاتحاد الأوروبي وهو المشروع القديم الذي طرحته الدولة الجزائرية أيام هواري بومدين رحمه الله في حين يلجأ الفرنسيون الى تفكيك القارة من خلال إبقاء النزاعات والاحتلال كورم خبيث ولا يترك المجال لإصلاحه.
مشروع إصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي تبدلت فيه مراكز القوى والتوازنات العالمية التي سادت تفكير القرن العشرين وحان لها أن تتحول الى فعل في القرن الواحد والعشرين.
لم يعد مقبول لا منطقيا ولا .
واقعيا ألا يكون لاتحاد قاري كالاتحاد الإفريقي مثلا صوتا في مجلس الأمن ومنظمات وازنة كالاتحاد الأوروبي ومن المفارقة أن يكون لدولة كفرنسا صوتا وهي جزء من الإتحاد نفسه.
بقلم حمدي حمودي