في العاشر من ديسمبر 2020 تفاجأنا مثلما تفاجأ العالم كله بتغريدة مشؤومة للرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، يعترف فيها بسيادة مزعومة للمملكة المغربية على الصحراء الغربية، التي هي حسب كل اللوائح والقرارات الدولية، إقليم غير متمتع بالاستقلال، وقضيتها قضية تصفية استعمار مسجلة لدى الأمم المتحدة منذ 1965. لست هنا بصدد التطرق إلى الدوافع ولا إلى الأسباب التي أدت إلى أن يخطو الرئيس ترامب مثل تلك الخطوة غير القانونية والمناقضة للمبادئ التي قامت عليها الولايات المتحدة نفسها ـ أي حق تقرير المصير ـ ومناقضة لكون الولايات المتحدة ظلت طيلة العقود الثلاثة الماضية هي حاملة القلم لصياغة مشاريع التوصيات المتعلقة بالصحراء الغربية في مجلس الأمن.
ما يهم هنا كذلك ليس هو ما يتم تناوله إعلاميا حول هذا الموقف الغريب، وما ارتفع ضده من أصوات من داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
الذي يهم قوله أساسا، هو أنه لا كلام رئيس منتهي الصلاحية والولاية، ولا ما قد يكون موقف الرئيس القادم، ولا تطبيل المخزن المغربي ومؤيديه وأذنابه، سواء ممن يُشترون أو يباعون في أسواق بيع الذمم، أو من امتهنوا الخيانة والولاء لغير الوطن، بل هي إرادة شعبنا في الحياة الحرة الكريمة فوق أرضه وأرض أجداده، واستعداده لفرض تلك الحقوق.
لماذا؟
ليس لأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست قوة عظمى في عصرنا هذا ولها اليد الطولى في كل أرجاء المعمورة وذات تأثير كبير على كل القضايا المطروحة على الساحة الدولية، لا، وليس لآن قضيتنا معزولة عن التجاذبات الدولية والإقليمية، لا، وليس لأن المخزن وحلفاؤه من فرنسيين وإسبان وإسرائيليين وخليجيين لا يرمون بثقلهم وبكل ما أوتوا من قوة لحسم المعركة في صالحهم، وطبعا ليس لأننا قوة مصنّعة، ذات شان ديمغرافي واقتصادي مؤثر في العلاقات الدولية، ومن المؤكد أنني لا أجزم مثلما لا أنفي بأن الرئيس الأمريكي القادم قد يغير أو يتراجع عما أقدم عليه سلفه، كل هذه العوامل مجتمعة أو متفرقة لها دورها المهم، لكن ليس الحاسم في نظري، المهم والأهم والمؤكد، وأكرر، هو قوتنا الذاتية بوحدتنا الوطنية وتمسكنا بحقنا والتفافنا حول الجبهة.
وللبرهنة على ذلك نعود قليلا في التاريخ إلى الوراء، وخاصة إلى صيف وخريف العام 1975، حين كنا على وشك اقتطاف ثمرة كفاحنا التحريري ضد المستعمر الإسباني، حيث زارتنا بعثة الأمم المتحدة، ورفعت تقريرا بما رأت وما وقفت عليه من تمسك شعبنا بالحرية والاستقلال والتفافه حول الجبهة، وصدر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية مفندا مزاعم التوسعية المغربية، وكنا قبل ذلك اتفقنا مع المستعمر على الانخراط في عملية إنهاء الاستعمار من وطننا، تبدأ بهدنة على جبهات القتال وتبادل الأسرى، ومباشرة عودة اللاجئين، وأعلنا الوحدة الوطنية، لكن أين ذهب كل ذلك؟ ومن كان وراء إحباط آمالنا وتحويل فرحتنا إلى مأساة؟ من ساند غزو أرضنا وتغاضى عن تشريد شعبنا وجعل العالم يتجاهل ما نتعرض له من مجازر؟ أكيد اننا نتذكر مثلما يتذكر العالم أنه كان هنري كيسنجر كاتب الدولة الأمريكية للخارجية حينها، هو من دبر وشجع المتآمر خوان كارلوس ـ رئيس دولة إسبانيا المؤقت وملكها لاحقا ـ على تلبية رغبات ملك المغرب، وهو من هيأ كل الظروف والأسباب لإنجاح مسيرة الحسن الثاني السوداء المسماة بالخضراء.
من هنا وعلى عجالة، وللتذكير فقط، منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، تعاقبت إدارات جمهورية وأخرى ديمقراطية على الولايات المتحدة الأمريكية، وتتالى رؤساء على البيت الأبيض الأمريكي، من جمهوريين من أمثال فورد، ريغان، بوش الأب، وبوش الابن، وآخرون ديمقراطيون من كارتر، بيل كلينتون، وأوباما، حتى وصلنا للمتعجرف ترامب. لا أتذكر أن أي رئيس ممن ذكرت ولا أي كاتب للخارجية الأمريكية في عهد كل تلك الإدارات، اعترف بحق شعبنا في تقرير المصير، أو دفع باتجاه احترام مقتضيات الشرعية الدولية حول حق شعبنا في تقرير المصير، كموقف للدولة الأمريكية، كل ما أتذكره، هو الدعم الأمريكي السخي ومن ورائه الحلف الأطلسي والمال العربي للنظام المغربي، نتذكر جميعا قصف الطائرات الحربية المغربية التي مصدرها أمريكي، لمخيماتنا في أم ادريڭة والڭلتة وآمڭالا وتفاريتي، ولن ننسى ما كانت تصب علينا تلك الطائرات من القنابل العنقودية ذات الصنع الأمريكي، مثلما سيظل حاضرا في الأذهان ما عرفناه من مواقف الولايات المتحدة ضد قضيتنا سواء في الهيئات الدولية أو على مستواها كدولة وكقوة عظمى.
وهذا ليس تحاملا على الولايات المتحدة الأمريكية أو انتقاصا من مكانتها الدولية، بل هو ما توكده تحاليلهم ورؤاهم المنشورة في وثائقهم الرسمية، فمثلا وليس الحصر، نجد في كتاب معهد الدراسات الاستراتيجية وصحافة الكلية الحربية للجيش الأميركي الحرب و الثورة أو التمرد في الصحراء الغربية الصادر في ماي 2013 في إحدى توصياته الختامية ما يلي:
(في هذه المرحلة، يظل الاستقلال التام، ومهما كان مبررا من وجهة نظر القانون الدولي، والتاريخ، والخلفيات الأخلاقية، حلا ليس واقعيا). والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو، لماذا؟ خاصة وأنه أمر مبرر من وجهة نظر القانون الدولي ومن ناحية التاريخ والخلفيات الأخلاقية، ويجيب واضعوا الكتاب في نفس التوصية حرفيا بما يلي: (على المستوى الأساسي، من شأنه أن يضعف النظام الملكي بشكل كبير إذا ما “فقد” محمد السادس الصحراء الغربية).
لذا، من غير الوارد الارتباط او التعلق بما سيكون من مواقف من إدارة الرئيس بايدن، وإن حصل أن تراجع عن ما أقدم عليه المخلوع ترامب، فذلك سيكون من منظور مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة كبرى تحاول البقاء على العرش مقابل المنافسة الشديدة التي تعرفها الساحة الدولية مع قوى مثلها متنفدة وأخرى صاعدة.
تاريخنا الكفاحي يثبت لنا أمرين هامين، الأول: قوة الحق تنتصر دائما مهما طال الزمن، لأن الحق في حد ذاته قوة هائلة يتكسر على جدارها الجبابرة والطغاة، والأمثلة كثيرة، والأقرب إلينا منها هو أننا نعلم كما يعلم القاصي والداني، أننا كشعب لم نكن ممثلين في الأمم المتحدة في العام 1965، حين أقرت الجمعية العامة بحقنا في تقرير المصير والاستقلال، ولا في العام 1972 حين أصدرت توصيتها المؤكدة على ذلك الحق مع حقنا في الكفاح وشرعية ما قد نقوم به من أجل إنهاء الاستعمار. كما أننا لم نفوّض محاميا لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي سنة 1974 حين أحالت الجمعية العامة للأمم المتحدة ملف قضيتنا إليها بطلب من المملكة المغربية، لكنه الحق انتصر لذاته وبذاته.
الأمر الثاني، الذي لا غبار عليه، هو اننا أصحاب حق، وأصحاب حق غير جبناء، مثلما قال مفجر ثورتنا المجيدة الشهيد الولي مصطفى السيد، ولذلك صمدنا وقاتلنا وأثبتنا وجودنا كقوة لا يمكن تجاهلها ولا تجاوزها، وأننا أصحاب ذلك الحق الذي لا يقبل التقادم، المتمسكون به والمدافعون عنه بشراسة، وأن قوتنا تنبع من حقنا وتصميمنا على انتزاعه، موحدي الصفوف والكلمة والرأي، وأننا مهما طال الزمن وتعددت الإكراهات، وكثرت المناورات وتنوعت الإغراءات، لا نُسلّم أمرنا وزمام مصيرنا إلا للجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب كممثل شرعي ووحيد لشعبنا، لأنها ـ الجبهة ـ ما فتئت تبرهن عن سلامة نهجها، ووضوح أهدافها، وإخلاصها في سعيها الدؤوب لإيصال شعبنا إلى شاطئ النجاة، وبذلك نضمن اختيار لون حياتنا ولا نترك غيرنا يقوم بذلك، لأنه قد لا يحمل بيده سوى قلما أسودا، لذا سيظل شعارنا هو: كل الوطن أو الشهادة
مصطفى الكتاب
17 يناير 2021
