مقالات
الحاكم المستبد والشعب العظيم !
محمد حسنة الطالب
بعد بداية ماسمي حينها ب ” الربيع العربي ” بقليل ، كتبت المقال التالي وكنت ارمي من خلاله الى فضح الحاكم العربي وتشبثه بتلابيب السلطة وتماديه في الإستبداد ردحا أنهك البلاد والعباد.
يداك أوكتا وفوك نفخ !
بعد سنين طوال من الصيد في الماء العكر، وعلى امتداد وتوسع مجرى نهر الظلمات، تجرأ الحاكم على أن يواصل السباحة عكس التيار، وهذه سنن وسنوات العمر للآمر الناهي من بني البشر والتي يحرص على التشبث بها والموت عليها، غير آبه بما يصيب بني جلدته من الآلام والمكاره، انه ينام قرير العين، ويصحو طيب الخاطر مرتاح الوجدان، متكلا في أمانه واطمئنانه على نسيج عنكبوتي من أزلامه وأتباعه المتملقين لقاء نفايات نفاياته التي ترمى لتكون أوحالا على جنبات ذلك النهر النتن .
هي السلطة التي يطمح كل جشع جبار إلى المسك بتلابيبها لتجسيد آماله وأحلامه الخاصة التي يعمل على إخفائها في بادئ الأمر، وما يلبث أن ينحو وجهتها شيئا فشيئا حتى تسري بركته على كل من حوله ويصبح رضاؤهم عنه مطلبا مدى الحياة، أو إلى أن يرثه راعيا لمصالحه ومصالح حاشيته، غير أن الشعوب المظلومة لم تعد تسمع ذاك الخرير المنمق، ولا تتنشق ذلك النسيم المنوم، كما لم تعد تنصت إلى تلك الزقزقة التي توحي بمجيء ربيع بات حلما منتظرا لعهود من الزمن .
لقد تداخلت العوامل الطبيعية والسياسية، وضاع الوطن والمواطن في دروب من ضرب الخيال لحاكم مستبد، وأصبحت الجماهير لا تعرف من السنة إلا شتاء وصيفا وطاغية متمردا، فتارة تنكمش بالبرودة، وطورا تتمدد بالحرارة، والمفتاح دوما بيد الحاكم، يزيد وينقص، يطفئ ويحرق، ويعدل من كل شئ طبقا لمزاجه الخاص، فالدستور في حقيبته هو والبرلمان بيده والحكومة قيد أوامره، والأجهزة الأمنية تحت تصرفه، وما بقي سوى أن يقول في إحدى خطبه “أنا ربكم الأعلى والي يعود المصير”، هكذا يخمن كل طاغية جبار، بل ويدعي أنه ملاك لا تنزل بساحته النقائص ولا الشائنات، وأنه مطهر من كل ذنب، وتلك صورة نمطية يرسمها خيالا في عيون الشرفاء من شعبه لترددها أبواقه الكاذبة، ونسي صاحبنا الحاكم الفاسق أن الفعل لا يحتاج إلى تعقيب، “وأن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” فأين الفعل البارز لحكام من هذا القبيل؟ الإجابة بكل وضوح لا تتعدى بضع كلمات، النهب والسلب، القتل والتعذيب، الدمار والخراب، فمتى يستقيم الظل والعود أعوج؟ متى يستقيم من لم تقومه السنون والدهور، ولم يسمع يوما بأن كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته .
إن الله يمهل ولا يهمل، وقادر أن يجعل من كل شعب تعرض للظلم والطغيان معجزة تأت على كل من يخالف شرائعه في الحياة،
ففي الجماهير تكمن المعجزات *** ومن الظلم تولد الحريات ، وعلى من يتعلم السباحة من الحكام ألا يسبح عكس التيار، وأن يختار مجرى مائيا نظيفا كي لا تعتل صحته، وأن ينفخ قربته جيدا ويحكم رباطها بأسباب الحياة الشريفة كي تنجيه وتوصله إلى بر الأمان، والى كل ما يرضي شعبه وأمته .
وليعلم من يزرع الأشواك أنه سيجني الجراح، ولمن انطلى عليهم هذا المثل نقول: يداك أوكتا وفوك نفخ، ويقول الصحراويون في مثل مشابه “أللي خبطتو أيدو ما توجعو” والعبرة لمن يعتبر.
الآن وبعد مخاض عسير ، إرتأيت أن أكتب عن الشعب العظيم وإرادته في ما قد يكون ربيعا حقيقيا تزهر فيه الآمال وتثمر فيه الطموحات ، خاصة بعد أن استفادت الجماهير العربية من تجارب الثورات السابقة واصبحت تميز بين الصالح والطالح وبين العدو والصديق وهي في طريقها إلى فرض الإصلاح الشامل وتحقيق النماء وبالرفاه.
تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن !
تسارعت الأحداث وتنوعت السيناريوهات وتغيرت المعطيات على الأرض بين السلبي والإيجابي ، وظل الحاكم العربي لا يقرأ ، لا يسمع ، لا ير ، ولا يحس ولا يعتبر حتى مما يدور في الواقع ، ولا يعرف من التعامل غير أسلوبه الأعمى المبني على القمع والترهيب ، وعلى المناورة واللعب بإرادة الشعوب كلما داهم الخطر سلطته المطلقة .
في المقابل إزدادت الشعوب وعيا ورغبة في التغيير وفي الخروج من بوتقة الإذعان والركود ، وثارت في بداية ماسمي ب ” الربيع العربي ” ضد الظلم والإستبداد ، وكانت النتيجة سقوط بعض الأنظمة وخراب بعض البلدان ، والتآمر والإلتفاف على الثورات في مهدها ، ما جعل العبث يطال تطلعات الشعوب وأهدافها النبيلة ومطالبها المشروعة في الحصول على حكم راشد يقودها الى مستقبل واعد ،
وفي هذه الاثناء تحول الربيع العربي من نعمة إلى نقمة ، وصار خريفا قاسيا جفت فيه الطبيعة وتناثرت فيه الأوراق هنا وهناك وتغيرت فيه المفاهيم والأجندات وأصبح فيه الضحايا كثر ، والدمار والفوضى سمة المشهد ، لا أحد ينكر المآلات الفاشلة للثورات في كل من اليمن وليبيا ومصر ، وما طال سوريا نتيجة المؤامرات المحبوكة بين بعض الأنظمة العميلة والقوى الأجنبية الإنتهازية .
ما يحصل في الجزائر اليوم يعد متنفسا جديدا على النقيض الى حد كبير مما سبق و أن حدث في ذلك ” الخريف العربي ” الذي أتى على الأخضر واليابس ، فالجزائر سبق لها وأن عانت أثناء العشرية السوداء من المآسي وعدم الإستقرار ، ودفعت الثمن غاليا آنذاك ، لكنها إستلهمت العبرة وأصبح شعبها واعيا بكل المخاطر المحدقة ، ولآن إختار طريقه وصار نموذجا راقيا في صنع التحول ، حيث حدد الجزائريون مسارهم الحضاري وأهدافهم المنشودة في سبيل التخلص بأمن وسلام من نظام بوتفليقة الذي حكم بلادهم عشرين عاما كانت فيها الفرصة سانحة لولوج العديد من الكفاءات من الجيل الجديد إلى مقاليد السلطة ، لولا التلاعب بالدستور وتمييعه بتعديلات على المقاس ، وفي ذلك طبعا مساس بالديمقراطية وبالحقوق السياسية والمعنوية للمواطنين .
أما ما يحدث في السودان من إنتفاضة وإحتجاجات مشروعة ضد سلطة عمر البشير التي حكمت السودان ما يقارب الثلاثين عاما ، تبخرت خلالها تطلعات الشعب السوداني في الإصلاحي وفي التقدم والازدهار ، حيث تدهورت الأوضاع في مختلف المجالات الحياتية ، وساءت حالة البلد بعد أن قسم الى دولتين عاجزتين عن القيام بوظائهما على أحسن وجه .
وبالعودة إلى أسباب الركود التي يشهدها العديد من البلدان العربية ، نجد أن فترات الحكم الطويلة والروتينية التي يستهويها الكثير من حكام العرب ، كان لها أسوأ الأثر على الدول والمجتمعات ، وكانت كافية لجعل الشعوب تأخذ قرارها بإستئصال مثل هذه الانظمة الخاملة والفاسدة من جذورها ، والعمل بكل عزيمة وإصرار على فرض الإصلاح الشامل وإحداث نقلة نوعية نحو الأفضل ، ولقد تحققت إنجازات معتبرة في هذا الصدد في الحالتين الجزائرية والسودانية ، وبدون شك سيمضي هذان الشعبان ومن يحذو حذوهما في هذا المسار السلمي الى غاية القضاء على آخر رموز الفساد في الوطن العربي ، وتلك روح جديدة سترفع الحيف وستعيد ترتيب الأولويات وصياغة المفاهيم وإظهار الحقائق التي كانت غائبة عن الثورات العربية السابقة التي نشبت في ظروف صعبة تشابكت فيها رغبة الحاكم في البقاء مع المصالح الإنتهازية للدول الغربية ، وهو ماعجل بالنكسة التي كانت وبالا على بعض الدول العربية وشعوبها .
من هنا أستوعبت الشعوب الدرس وتم البناء على أرضية صلبة أساسها المطالب المشروعة والتوجه السلمي المدروس والعزيمة التي لاتلين ، وسيحفظها الجميع حتما عن ظهر قلب ، وستتناسل ثورات أخرى لن تسلم منها الممالك العربية وأشباهها ، بوصفها أنظمة عميلة متخلفة وماعادت تساير العصر ولا تلبي إرادة الإنسان في العدالة والمساواة ولا في بسط قيم الديمقراطية وحقوق الأنسان ، وبالتالي فمصيرها الإنقراض اليوم أو غدا ، ستزول مهما كانت درجة عمالتها وقوة أذرعها المخابراتية المرتبطة بالسياسات الفجة للدول الإستعمارية .
هكذا علمتنا التجارب بأن الإنسان يولد حرا وبأن إرادة الشعوب لا تقهر ولذلك قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي :
إذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
لقد قام الشعب في الجزائر وفي السودان مؤخرا بثورتيهما الحديثتين وحققا الى حد الساعة مكاسبا معتبرة بأرقى أسلوب وبأروع تظاهر في التاريخ ، وبقيت بعض الشعوب العربية بين مد وجزر ، ويغلب على جماهيرها بعض التردد ، حيث الشعب المغربي الذي مازال يعاني الويلات والمآسي بسبب الفساد الذي تغذيه الملكية المطلقة في هذا البلد ، ومازال فيه الشارع تائها وخائفا من القمع والترهيب ، ولذلك يحتاج أحرار المغرب إلى جذوة من النخوة والإصرار لرفع مظاهر الظلم وصور العبودية المفروضة عليهم قهرا ، كذلك المملكة العربية السعودية مازالت هي الأخرى تفرض طوقا على شعبها وتمنعه من التعبير عن إرادته في التغيير ، ولا ننسى أيضا ما إتخذته من قرارات هدامة في حق اليمن ولبنان وسوريا وما شجعت عليه من فوضى وخراب في المنطقة ، وتلك لعنة ستلاحق النظام السعودي عاجلا أم آجلا ، وستجلب إليه الخطر من حيث لا يحتسب ، وهو ما قد يشجع الشعب السعودي مستقبلا على النهوض من غفوته والإطاحة بعائلة آل سعود التي توقع العديد من الإتفاقيات لحماية عرشها الذابل ، أما عن بقية أنظمة دول الخليج فالدائرة تدور والدور قادم عليها واحدة واحدة شاءت أم أبت .
إذا التحول التاريخي الكبير الذي قد تسفر عنه الأحداث في كل من الجزائر والسودان سيكون أيقونة لبقية الشعوب العربية التي ما زالت لم تحسم أمرها بعد ، لا بل قد يفسح لها المجال واسعا لإقتفاء أسباب النجاح الذي ما فتئت تحققه هاتين الثورتين ، والتي قد تتجلى في مايلي:
1_ إختيار الشعب الجزائري مسارا مدروسا ومعقولا أساسه السلم والمحافظة على مؤسسات الدولة وعلى أمنها واستقرارها ، وهو ما لم تسلكه الثورات السابقة .
2 _ إعتماد الشعب على نفسه في إحداث التغيير الشامل ورفضه لأي أجندات خارجية أو أي تدخل في شؤونه .
3 _ إصراره المعقول على إستئصال النظام الفاسد من جذوره ومحاسبة رموزه المتورطين في تدهور الاوضاع في مختلف مجالات الحياة .
4 _ ضرورة إحترام الشعب للدستور مبدئيا إلى غاية مراجعته وجعله يساير مصلحة البلاد في كل مناحي الحياة ولاسيما الديمقراطية منها .
5 _ التفاهم والتوافق حول آلية نزيهة تضمن إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد ، ويناط بها دراسة وضبط ملفات المترشحين للرئاسة ومراقبة سير الإنتخابات وفقا لمعايير النزاهة والشفافية المطلوبة ، وتنظم لوائح الناخبين وتدقيقهم وتتبعهم تفاديا لأي تزوير ، وحينذاك سيتسنى للشعب التأكد من النتائج الإيجابية التي حققها في إطار حراكه من أجل التغيير وفرض الإصلاحي الشامل .
6 _ إنشاء آلية قانونية مستقلة في ما بعد لمحاسبة السلطة وتتبع نشاطها مع مراقبة أملاك الدولة وكيفية توظيفها .
7 _ إعتبار الشعب هو السيد دائما وهو صاحب الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بتسيير الدولة ، وهو العين الساهرة على سياسة البلاد وحمايتها من أي إنزالاق قد يدفعها إلى التبعية ، أو قد يجعلها تراوح مكانها أو يعود بها الى الخلف .
عندما تتحقق مثل هذه المطالب كلها في ظل الحراك الحضاري الجزائري والسوداني اليوم ، فسنكون أمام تحول كبير ستشهده الشعوب العربية والإفريقية عموما إن هي أحيت نخوتها في التحرر من براثين الإستعمار ومن حكم المفسدين والخونة وقررت الإنطلاق في هذا المسار الآمن .
لقد كرهت الشعوب العربية من التخلف والخيانة ، ومن التبعية وهيمنة الغرب على أحلامها ومقدراتها الإستيراتيجية المختلفة ، وآن لها أن تهب كالريح العاتية لتعصف بسفن الإستبداد وزوارق الموت إلى غير رجعة ، ومن ثم لها أن تمضي في إتجاه التقدم والرقي والرفاه بكل حيطة وحذر .