لقد كان منظرا بشعا حزينا كئيبا باكيا مبكيا ..
عبداتي لبات الرشيد
كانت الساعة تشير الى الواحدة زوالا تقريبا .. كنت أمارس هوايتي المفضلة في البحث عن الجديد في سوق الملابس المستعملة “الجوطية” وأنا المولع بما توفره هذه التجارة من ملابس أكثر جودة وأقل أسعار وبكثير من سوق الملابس الجديدة ولقد صرت زابونا معروفا لدى كل نقاط بيع هذه التجارة بالشهيد الحافظ “الرابوني” حتى أن بعض التجار أصبح يعمل معي تخفيضات حين أشتري مجددا ..
قلت .. بعد أن أنهيت تلك الجولة كنت عائدا الى مكان عملي شاقا طريقي بين أزقة “المرسة” الضيقة عندما لفتت إنتباهي إمرأة متقدمة بل طاعة في السن ومعها طفل صغير قاصر وبكل تأكيد .. كانت المرأة وما يبدو أنه حفيدها يقفان عند مكان لإصلاح العجلات “ميشلان” .. شد المنظر إنتباهي .. فتساءلت .. ماذا تفعل هذه المرأة وهذا القاصر في مكان كهذا في توقيت كهذا .. تملكني الفضول وشعرت بعدم الراحة وشيء من الحزن لأن المنظر مبكي وتعيس قبل حتى أن أتبين حقيقته ..
قررت في ثواني قليلة أن أقترب من المنظر فمضيت مسرعا بإتجاه المكان .. عندما وقفت بجانبها لاحظت أن المرأة بعمر جدتي تقريبا وقد ذكرتني رائحتها وتجاعيدها وملابسها وطريقة تحركاتها والتسابيح التي تملأ يديها بجدتي التي ربتني والتي ما أحببت إنسانا في هذا العالم مثلما أحببتها ..
عندما إقتربت أيضا كان منظرا أخر قد لفت إنتباهي .. لاحظت سيارة “طويوطا گوبيرنو” متوقفة بالمكان نفسه وبداخلها شخص ضخم يرتدي بدلة أنيقة كان سائقه يتحدث الى عامل ميشلان وفهمت من حديثه أنه يرغب في إستبدال عجلات السيارة الأربعة وتركيب عجلات جديدة كانت موضوعة في مؤخرة السيارة .. سأله السائق كم تستغرق العملية فأخبره العامل بأنه يشتغل هذا اليوم وحده وأن العملية قد تستغرق ساعتين على الأقل .. قال له السائق حاول الإسراع في العملية لأن فلان تحانيه عايلتو ومزالو مارگين اليوم شور البادية ثم توجه السائق نحو الرجل الجالس في السيارة وكنت شخصيا قد تعرفت إليه بسهولة كواحد من رموز هذا النظام .. توجه إليه وتبادل معه كلمات قليلة قبل أن يأخذ هاتفه ويضغط على رقم لتحدث الى شخص أخر وسمعته يقول له بعد أن حدد مكانه ” .. أتعالا بالعجلة راهو أفلان ألا قاعد فالوتة هو ول(Pequeño) باش تمشي بيهم لين أنكمل تركاب أرواوظ أجدد للوتة .. ” ..
قررت أن أنتقل الى وجهتي .. أي الى تلك العجوز وحفيدها .. كانت تجلس المسكينة وسط ذلك الغبار .. إقتربت منها أكثر .. شحالك والدتي ياك لباس .. لباس يا ولدي ألا الخير .. وبعد تبادل السلام سألتها .. ماذا تفعلين هنا ياك لباس .. قالت .. ألا أنلود لشغلة لأطفيل وأتكلمت مع ذا الجييد -تقصد عامل الميشلان- وقال بعد عنو لاهي إشغلو أمعاه هون إجازيه .. نظرت إليه وهو واقف الى جانبها .. كان طفلا صغيرا .. فسألتها .. يا والدتي أطفل أصغير أعلاه ما يمشي إكمل أقرايتو هذا ماهو مكانو الطبيعي يا والدتي .. قالت لي وهي تمسك بتسبيح بيدها اليمنى .. أيو الحاجة يا ولدي الله غالب أطفل أمو أضعيفة ووالدو ماهو أمعاها وذا الزمن عاد لابد من شي الحال واعر يا ولدي ..
حاولت إقناعها ولكن كانت حججها أقوى من حججي وكان الواقع المرير أقوي مني ومنها ..
كنت أكلمها وأرفع بين اللحظة والأخرى عيني بإتجاه ذلك المسؤول وأتمنى في قرارات نفسي أن ينزل من سيارته ليسأل عن حال واحدة من الرعية لا يمكن لأي إنسان له قلب ينبض وضمير حي إلا أن تلفت إنتباهه على الأقل .. لكنه لم ينزل إلا ليركب وإبنه السيارة الأخرى .. لقد كان منظرا بشعا حزينا كئيبا باكيا مبكيا ..
وقبل أن أغادر ذلك المكان غاضبا كان ذلك الطفل البريء قد بدأ في مساعدة عامل الميشلان في فتح عجلات السيارة التي تحمل ترقيما حكوميا (GSH) أي أنها ملكية للشعب وهي العملية التي تحتاج الى جهد بدني كبير وبكل تأكيد لا يبدو الطفل القاصر قادرا عليه .. وقبل أن أغادر ذلك المكان كذلك كانت سيارة أخرى قد توقفت لتقل ذلك الشخص وإبنه “لبيكينيو” الى مكان أمن مكيف مريح خالي من الغبار والأوساخ .. خالي من وجوه الناس البؤساء والمعذبين في الأرض وبعد مدة سيلتحق السائق به ومعه السيارة جاهزة بعد أن يكون ذلك الطفل الصغير حفيد تلك الجدة الحزينة التي لا أعلم هل غادرت ذلك المكان اللعين أم بقيت بجانب حفيدها في إنتظار أن ينجح في أول عمل له في أول يوم له في محيط لا رحمة فيه ولا شفقة .. !! ..
ما يحز في النفس وأكثر شيء أثار غضبي وهز كبريائي وكسر كرامتي كمواطن في هذا البلد التعيس أن هذا المخلوق التافه والمسؤول البارز في هذا النظام والجالس في مقدمة تلك السيارة الفارهة والذي يرتدي “دراعة” أنيقة ويضع لثاما على وجهه وساعة جميلة في يده والذي يبدو أنه لم يجرب أبدا “أتكرفيس وشين السعد” .. لم يجرب حرارة الشمس في الصيف والبرد القارس في الشتاء وسط صحراء قاحلة مستعارة وتحت خيام قماشية او بيوت طينية .. لم يجرب الفقر والحاجة وقلة الحيلة .. لم يجرب وعائلته ضيق الحال وإنعدام الأفق والبطالة واليأس والخيبة من وفي كل شيء .. لم يجرب اليوميات الروتينية التعيسة وطول الإنتظار .. هذا المخلوق التافه لم يكلف نفسه ولا حتى النزول من سيارته للإستفسار عن حال هذه المرأة المسكينة وماذا تفعل بالظبط في مكان كهذا .. لقد كان ينظر إليها ويواصل حديثه مع سائقه أحيانا وأحيانا أخرى يتصفح هاتفه الذكي الى أن جاءت سيارته الثانية فركب هو وإبنه “لبيكينيو” وذهب في إنتظار أن تقف سيارته “الكات كات” على عجلاتها الجديدة ليشق طريقه متوجها وعائلته الى منتجع هاديء في البادية ليقضي وأسرته أياما سعيدة بعيدا عن ضجيج الفقراء المعذبين في الأرض وأنين وآهات المحتاجين المرفوعة الى السماء ..
لقد مضيت في طريقي أمسح دموعي التي حاولت منع نزولها جاهدا .. مضيت في طريقي وأنا العن هذا الزمن .. العن هذا الواقع .. مضيت في طريقي وأنا أكرر كلمة واحدة .. اللعنة .. اللعنة .. !! ..