جنيف: الدرس الأخير
البشير محمد لحسن
في منتصف الخمسينيات، وبعد اشتداد وتيرة الحرب بين الثوار الفيتناميين والولايات المتحدة الأمريكية، قررت هذه الأخيرة التفاوض معهم لحفظ ماء وجهها قبل هزيمةٍ عسكرية محتومة، فطالبت الفيتناميين بإرسال وفد للتفاوض في باريس حول وقف إطلاق النار.
أرسل الفيتاميون وفداً مكوناً من أربع ثوار إمرأتان ورجلان، وكانت المخابرات الأمريكية قد جهزت للوفد إقامةً مريحة في أفخم فنادق باريس. وبعد وصول الوفد إلى مطار باريس وجد سياراتٍ فخمة في انتظاره لنقله إلى الفندق، لكن وفد الثوار الفيتناميين رفض الصعود على متنها، مؤكداً للأمريكان أنه سيصل الإجتماع في الساعة المحددة لذلك.
استغرب الأمريكيون ذلك التصرف، وسألوا رئيس الوفد الفيتنامي عن مكان الإقامة، فأجابهم بأنهم سيقيمون عند طالب فيتنامي في إحدى ضواحي باريس. وبالفعل، أقام وفد الثوار الفيتناميين مع الطالب الجامعي في منزله المتواضع طيلة أيام التفاوض مع الأمريكيين لمناقشة انسحابهم من فيتنام.
تذكرتُ هذه القصة فور حلولنا بمدينة جنيف السويسرية لتغطية المباحثات التمهيدية التي جمعت الجبهة الشعبية بالاحتلال المغربي منتصف الأسبوع الماضي بحضور الجزائر وموريتانيا كبلدين ملاحظين. فما إن علمت أن مكان اقامتنا سيكون تمثيلية الجبهة بسويسرا حتى حضرت في ذهني قصة الثوار الفيتناميين التي الهمتني كثيراً وجعلتني أضع نفسي مكانهم، فرغم أننا كبعثة إعلامية ليس من شأننا الدخول في حيثيات مضامين اللقاءات، غير أن مسؤوليتنا تكمن في نقل الأخبار بكل موضوعية وحيادية وبعيون صحراوية، فهي المرة الأولى التي تُرافق فيها بعثة إعلامية وفدنا المفاوض وما يعنيه ذلك من مسؤولية جسيمة تتمثل أساساً في أن شعبنا ينتظر منا المعلومة ولن يضطر هذه المرة للبحث في وسائل الإعلام الدولية أو المغربية في بعض الأحيان عن أخبار اللقاءات، بل أنه سيتابع الأخبار الدقيقة والموضوعية عبر وسائل الإعلام الوطنية التي كانت عيونها حاضرةً للحدث.
ما عزز حضور قصة الفيتناميين في ذهني هو رحابة الصدر التي تم استقبالنا بها من طرف ممثلة الجبهة الشعبية بسويسرا الأخت، أميمة عبد السلام ونائبها الأخ، حدمين مولود سعيد. لقد فتحا لنا الصدور قبل الأبواب وعَمِلا جاهدين على توفير أقصى درجات الراحة لنا وهو ما انعكس على طبيعة عملنا والتغطية الإعلامية الصحراوية بشكل عام. كان حالنا يختلف عن نظرائنا، الصحفيين المغاربة، الذين جاؤوا لتغطية الحدث. فبينما كانت اقاماتهم في أفخم فنادق جنيف، كنا نحن في منزل مشابه لمنزل الطالب الفيتنامي بباريس، فمنزلنا يُشع دفئاً وطيبة وحفاوة استقبال، عكس الإقامة في الفنادق التي تكون باردة وجافة وخالية من أي روح واحساس. ومن باب أن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، لا بد من التنويه بالروح الثورية وكرم الضيافة الذي وفرته لنا البعثة الصحراوية في جنيف طيلة أيام التفاوض وبعده.
لقد كانت تجربةً فريدة ورائعة أظهرت أنه يمكننا نحن أيضاً أن نوفر لشعبنا مادةً إعلامية احترافية تليق بجمهور وسائل إعلامنا الوطنية الذي تمكن من متابعة مشاورات جنيف عبر الإعلام الصحراوي دون الحاجة للبحث في بقية الإعلام الدولي أو حتى صحافة العدو.
وبعد تناول الموضوع من مختلف الزوايا ولكل وسائل الإعلام الوطنية، كان الدرس الأخير من جنيف يتعلق بالتجربة الشخصية التي كانت مفيدة للغاية. فهي المرة الأولى التي تمنح الأمم المتحدة الاعتماد لوسائل الإعلام الصحراوية لتغطية حدثٍ يتعلق بالقضية الوطنية وبهذا الحجم، كما كان التواجد الإعلامي الصحراوي فرصةً لطرح الأسئلة على المسؤولين المغاربة الذين وجدوا أنفسهم للمرة الأولى في مواجهة وجهاً لوجه مع الإعلام الصحراوي واسئلته التي قد لا يطرحها غيره من إعلام العدو أو حتى الإعلام الدولي المهادن. ومن جهة أخرى، شعر الوفد الصحراوي المفاوض أثناء أشغال اللقاءات وفي المؤتمر الصحفي تحديداً أنه ليس وحيداً في مواجهة الإحتلال سواءً بوفده المفاوض أو إعلامه الذي حج بالعشرات إلى جنيف لمغالطة رأيه العام ومواصلة تضليله. ففي الندوة الصحفية التي عقبت انتهاء اللقاءات كان الإعلام الصحراوي حاضراً بأسئلته التي حاصرت وزير خارجية الإحتلال، كما كان حاضراً أيضاً بأسئلته الموجهة لوفد الجبهة المفاوض وهي الأسئلة التي سمع فيها الإعلام الدولي الحاضر وكذا أعضاء الوفد مصطلحاتٍ من قبل؛ الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، الاحتلال المغربي وغيرها، وهي مفردات نادراً أو من شبه المستحيل أن تُسمع في مثل تلك الأحداث الدولية وأمام الصحافة العالمية أو حتى على مسامع وفد الإحتلال.
كل التوفيق للصحفيين الصحراويين والمزيد من التألق في قضيتنا العادلة