مقالات
رحل المحفوظ ليبقى محفوظا ..
عبداتي لبات الرشيد
في ذكرى وفاته أعيد نشر مقال او كلمات بالأحرى كتبتها في رحيله .. وسيذكر إسم الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز وقتها كان لايزال بيننا .. وللتاريخ فقط .. لقد كان الرجلان عظيمان بحق وقد إفتقدهم الشعب والقضية ..
لن أقول لك انك تركت فراغا فشخصيا لا أحب استخدام هذه الكلمة في رثاء الآخرين ممن يعز علينا فراقهم لكنني أقول لك أيها الرجل الطيب والصديق العزيز انك لم تترك فراغا بل تركت شعبا سيواصل الحفاظ على رسالتك التي رحلت من اجلها … أيها الفقيد اسمح لي أن أعزي نفسي برحيلك وقد كنت الوحيد الذي ذرفت دموعا غزيرة عليه بعد أن سمعت بالفاجعة، اسمح لي أن أعزي بهذا المصاب الجلل كل أفراد هذا الشعب الذي أحبك كثيرا وكنت الوحيد أيضا الذي ذرفت كل الجموع المودعة الدموع عليه، أعزي في رحيلك كل رفاق دربك وخاصة السيد الرئيس رفيقك وصديقك وأخوك الذي كان وللأمانة أكثر الناس تأثرا برحيلك، أعزي كل من احبك من أصدقاءك وزملاءك وحتى أفراد بسطاء من هذا الشعب كنت يوما صديقا لهم ورغم مكانتك الرفيعة لم تتكبر ولم تتجبر وكنت نعم الأب والصديق والناصح لهم وأنا واحد منهم …
في صيف سنة 2007 كنت رفقة زميلي في مجلة “الأمل الصحراوي” عبد الله احمد سالم احمين، كنت أنوي إنتاج فيلم وثائقي قصير عن الشهيد الولي مصطفى السيد بالتعاون مع مخرج جزائري صديق، فشخصيا لا أملك تجربة في الإخراج وكذلك زميلي الهاوي الذي كان وقتها يتقن التعامل مع الكاميرا فقط.
وضعت قائمة بأسماء من رأيت أنه من الضروري أخذ تصريحات لهم لمساعدتي في إنتاج الفلم، أغلبهم قياديين بارزين في البوليساريو عاصروا وكانوا رفاقا لشهيد الحرية الولي مصطفى السيد ولعل أهمهم وأقربهم إلى قلبي وأكثرهم قربا إلى قلوب كل المواطنين كان الرجل الذي رحل عنا مؤخرا المحفوظ علي بيبا.
لم يكن المحفوظ علي بيبا مجرد قيادي بارز أو مفاوض بارع لكنه أيضا كان ذلك الرجل الطيب البسيط الذي لا يحب التكلم كثيرا ولا الظهور أمام الكاميرات ولا خطف الأضواء، لقد كان فقيد الأمة والقضية رجلا متواضعا شهما وصدوقا، فحين إلتقيته لإجراء لقاء معه وكنت وقتها أخاف ان يرفض، فرح كثيرا للفكرة وقال لي رحمة الله عليه أنه سعيدا برؤيته شبابا في مقتبل العمر متحمسين لتحويل فكرة كبيرة إلى حقيقة واقعية بإنتاج فلم عن شاب ناضل وأعلن الثورة والدولة ومات من اجل قضيته قبل حتى أن يبلغ الثلاثين من العمر.
أخبرني أنه سيخصص يوم عطلته الجمعة للقائنا وإعطاءنا التصريح الذي نريد، وفعلا كان الرجل في الميعاد وكنا أيضا، حيث استقبلنا في مقر البرلمان بمدرسة 9 يونيو الوطنية، وجدنا الرجل الذي كنا نعتقد أنه بالكاد سيتحدث أو ينظر إلينا في استقبالنا، فمن نحن؟ ومن هو؟، لم تكن لي به سابق معرفة ولا لقاء، استقبلنا بكل ما تقتضيه ضيافة أي مسؤول رفيع أو ضيف عزيز، وجدنا الرجل في قاعة الاستقبال حيث اعتقدنا لما رأيناه من حسن الضيافة أننا لسنا وحدنا الذين لهم ميعاد معه وأن شخصا أو وفدا مهما على وشك الوصول، لكن مر الوقت وعرفنا أن كل مظاهر الضيافة التي رأينا من الاستقبال البروتوكولي الذي خصصه لنا ووجبة الغذاء التي أقامها كل ذلك لم يكن سوى على شرفنا وحدنا، كان الرجل طيبا إلى أبعد الحدود وبسيطا وصدوقا، قضينا معه وقتا ثمينا وصورنا التصريح الذي كنا نريد حيث تحدث الرجل عن رفيق دربه الشهيد الولي مصطفى السيد بتأثر بالغ، بعد ذلك جلسنا جلسة بسيطة على مأدبة الشاي حيث سألني وزميلي عن الأهل، كان رحمه الله يعرف كل الصحراويين فقد تحدث عن أبي وأب زميلي وكان يعرفهم جيدا، كان يعرف أيضا أقاربنا وأصدقاءنا وتقريبا كل من ذكرناهم كان يعرفهم، سأل عن أحوالنا وعن أحوال الأهل بتواضع كبير ولم يذكر أحدا أبدا بالسوء كان كلما سألنا عن أحدا إلا وقال “فلان وخيرت بيه”، لقد كان الرجل يعرف كل أفراد الشعب واحدا واحدا ويحبهم واحدا واحدا ويقدرهم واحدا واحدا على اختلاف مستوياتهم وأعمارهم.
لم ألتقيه بعد ذلك رحمة الله عليه إلا نادرا فقد كان كل وقت الرجل لقضيته فتراه مفاوضا يجوب أقطار العالم للتعريف بقضيته وتراه تارة يمارس مهامه على كثرتها كرئيس للبرلمان يحضر كل أو أغلب الجلسات وعلى طولها وكثرتها كما تراه يحضر اجتماعات الأمانة الوطنية ومكتبها، ترى الرجل يحضر المحافل والذكريات داخليا وخارجيا، تراه يشرف على تخرج دفعات جديدة من الشبان الملتحقين بالجيش الشعبي الوطني، وترى الرجل الطيب أيضا وعلى كثرة مهامه وجسامتها تراه على مأدبة الشاي في خيمة صديق أو زميل أو أي مواطن بسيط.
لم يكن المحفوظ الذي سيظل محفوظا في قلوبنا كثير الكلام ولكنه حين يتكلم يقول صدقا، كان قليل التصريحات ولكن حين تحدث مرة في أحد القنوات التلفزيونية الفضائية قال بكل صدق “سأقبل نتيجة الاستفتاء إذا أتيح للصحراويين التعبير عن خيارهم الحر بكل حرية وشفافية حتى ولو اختاروا الانضمام للمغرب لكنني لن أنضم إلى المغرب لو حدث وأختار الصحراويون هذا الخيار رغم أن كل أفراد عائلتي في المناطق المحتلة ولم أراهم منذ زمن بعيد”.
وفعلا رحل الرجل في صمت في يوم جمعة بين أفراد شعبه البسيط في خيمته المتواضعة بعيدا عن الضجيج ومكبرات الصوت، رحل الرجل ولم ينضم إلى المغرب لا قبل ولا بعد أن يختار الصحراويون خيارهم الحر الذي كان المحفوظ أكثر الناس معرفة به وقناعة بتجسيده، لقد كان المحفوظ على قناعة تامة وهو الذي فاوض الأعداء أكثر من مرة ولم يتنازل قيد أنملة، كان على قناعة أن الصحراويين لن يختاروا الانضمام للمغرب يوما ولن يجبرهم أحد على ذلك يوما، كان على قناعة أن يوم الحرية آت وأن الأجيال اللاحقة ستكون أكثر تشبثا بحقها وإرث آباءها وقد كان المحفوظ واحدا من أعظم الآباء ولن نفرط يوما في إرثه وسنفتخر دائما بشخصه وتاريخه.
كنت دائما ابعث له رحمه الله بكتاباتي التي كانت في أغلبها كتابات “مشاكصة” تنتقد بعض السياسات وحين يقرأها كان دوما يرد علي بأنه يثق في قدرة الشباب وفي حيويته ومعجب بأفكاره وعلى ثقة بوطنيته وكان نعم الأب والصديق والناصح، فالرجل الذي عرف بأناقته وحسن منظره ولباسه ونظافته وطيبة رائحته كان أيضا أنيقا بأفكاره بارعا بأسلوبه المقنع مهما اختلفت معه حول بعض الجزئيات.
فرحمك الله وكل الشهداء وجزاكم عنا خير الجزاء ..