ماكرون كمن سبقوه يخلط الحق بالباطل
يحاول ماكرون في آخر عهدة له وبعد نجاته من صعود اليمين المتطرف ، أن يستعيد بعضا من شعبيته من خلال اللعب على الحبلين بين المغرب والجزائر، وذلك من خلال إحياء السياسة الفرنسية القديمة في منطقة شمال غرب إفريقيا خاصة ، وكذا في جنوب الصحراء ، آملا أن تسهم هذه الخطوة في ترميم صورة فرنسا التي أخذت تتشظى منذ دخوله الى قصر الإيليزيه في 14 ماي 2017 .
ولكن الإستعمار كما هو معلوم وبوصفه تلميذ غبي لا ينفك عن تكرار أخطائه ، لأنه وببساطة مغرور ومتكبر ويستخف دائما بمستعمراته وبحقوق الشعوب المستضعفة، كلما تعلق الأمر بمصالحه ونزواته الإستعمارية التي غالبا ما تخلط الحق بالباطل ، وعلى هكذا تصرفات ومواقف شب قادة ورؤساء الدول الغربية المارقة دون إسثناء .
وما لم يستنبطه ماكرون من التاريخ الإستعماري لبلده ، وما لحق بها على يد المقاومة الجزائرية الباسلة التي دفعت مليونا ونصف المليون من الشهداء من أجل الإستقلال عن فرنسا ، ولكي تكون الجزائر سيدة قرارها ، جعل ماكرون اليوم يدفع الثمن ويلوذ مسرعا الى ماضي فرنسا الملطخ بالعار عسى أن يجد فيه مخرجا يمكنه من فك طلاسم حاضر تعيس وربما مستقبل يبدو مشوشا وخطيرا حسب التوقع ، أصبح يتربص بالدولة الفرنسية أكثر من أي وقت مضى ، ولكن حنين ماكرون إلى ذلك الماضي بأسلوبه العنجهي والمتكبر الذي يستغبي الشعوب ، لن يؤدي في الأخير إلا الى الوقوع في نفس مطبات الماضي المحتشم وزيادة الطين بلة ، بتشويه ما تبقى من سمعة فرنسا “القيم والحريات” الزائفة ، وفقدان نفوذها الإستعماري الذي أصبح مرفوضا على الأقل من طرف الأفارقة ، وبدأ فعلا في التلاشي من أهم قلاعها الكبيرة في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء وقد يتوسع الأمر الى أبعد من ذلك .
والغريب في أمر ماكرون أنه ربما مازال يعتقد والحالة هذه ، أن ما يجري في حدائق بلده الخلفية بالقارة السمراء هو مجرد زوبعة في فنجان ويمكن تداركه متى وكيف ما شاء إستنادا الى “عظمة فرنسا التي يتخيلها” والى عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي” التي أصبحت على المحك بسبب المطالب المتزايدة والهادفة الى إصلاح منظمة الأمم المتحدة برمتها ، وبالتالي يبدو أن ماكرون يغامر ببلده في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة آنية ومستقبليا.
هكذا أعمت غريزة الطمع والتوسع بصيرة الغرب الى أن أصبح يغرد خارج واقع القيم والمثل الإنسانية العالية بكل وضوح ، معتمدا في هذا التوجه على ماض تجاوزه الزمن ، وعلى حاضر كشف زيف شعاراته وخسة نواياه المبيتة ، وتعاليه المفضوح على مواثيق وقرارات الشرعية الدولية التي لا يعتد بها إلا حين يتعلق الأمر بمصالحه والتحضير لعدوان مشبوه .
إذن صورة فرنسا اليوم تبدو مشوهة كما هو الحال بالنسبة لغالبية الدول الغربية ، والسبب هو جنوح هذه الدول الى التفكير في المصالح والإمتيازات قبل قراءة الواقع ومعرفة تداعياته الخطيرة على المدى المتوسط والبعيد ، وتلك هي نقطة ضعف هذا الغرب المغرور ، الذي وضع كل بيضه في سلة التكنولوجيا وخاصة في مجالها العسكري ، ظنا منه أن ذلك كافيا لأن يكون عاملا للحسم على الأرض وكسب الرهان وبسط النفوذ ، والوصول في آخر المطاف الى مكامن الإمتيازات الحقيقية وموطن المصالح الإستيراتجية الكبرى .
وما دامت دول القارة السمراء شمال غرب الصحراء الكبرى وجنوبها ذات الطبيعة البكر ، تشكل اليوم محط أطماع ، وبؤرة صراع مرير على النفوذ بين كل من أمريكا والصين وروسيا خاصة ، فإن أثر فرنسا في هذه المناطق يبدو آخذا في التلاشي شيئا فشيئا ، والسبب يعود الى سياساتها الإستعمارية الفاشلة التي حولت مستعمراتها الإفريقية منذ زمن بعيد الى دول وظيفية فاشلة لا حق لرؤسائها ولا لحكوماتها في تطويرها كبلدان مستقلة وخدمة شعوبها بما يتواءم وأمالها وطموحاتها في الرقي والإزدهار ، بل ولا حق لهذه الشعوب حتى في تأمين مصيرها بنفسها إن دعت الضرورة ، ومثل هذه الهيمنة الإستعمارية المطلقة يتنافى دون شك وطبيعة الديمقراطية الكاذبة التي ينادي بها الغرب ، والخالية من مضمونها الحقيقي الذي يعني بكل وضوح “حكم الشعب”
وبالتالي فموقف ماكرون بخصوص تأييده للمقترح المغربي الرامي الى تكريس خيار الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية المزعومة على الصحراء الغربية ، يعتبر خرجة غير موفقة لعدم إنسجامه مع قيم الديمقراطية ومرامي وأهداف قرارات ومواثيق الشرعية الدولية الصادرة بخصوص قضية الصحراء الغربية بوصفها مسألة تصفية إستعمار ، ومهما تطابق موقف ماكرون هذا مع السياسة الآستعمارية الفرنسية وتاريخها الأسود ، إلا أنه لن يحسن من صورة فرنسا اليوم ، بقدر ما ستكون له إنعكاسات سلبية دون شك عليها وعلى مصالحها في العديد من دول إفريقيا التي ذاقت مرارة الهيمنة الفرنسية ، وقد يكون الضرر أكبر من ذلك إن تعلق الأمر بألمعاملات وإتفاقات الشراكة التي يمكن أن تربط فرنسا بالإتحاد الإفريقي .
أما عن تأثير موقف ماكرون هذا ، الذي إتخذه بخصوص القضية الصحراوية مجاملة للرباط من جهة ، ومحاولة من جهة أخرى للإبقاء عليها كإحدى قلاعه الإستعمارية ، التي بدت تسقط في يد إسرائيل دون تردد ومن ورائها أمريكا ، فإن تأثير ذلك القرار يكاد يكون منعدما كون الإستعمار الفرنسي والإحتلالين المغربي والإسرائيلي وجهان لعملة مزورة واحدة ، لا يعتد بقيمتهما الزائفة المتعارضة بكل وضوح مع كل ما تقره مواثيق وقرارات الشرعية الدولية ، والشرعية الدولية حتى وإن بدت متجاوزة في العالم اليوم ، لكنها حتمية التفعيل عاجلا أم آجلا وستفرض نفسها لامحالة اليوم أو غدا ، بالنظر الى ما يسود في العالم اليوم من مظالم وتجاوزات وجنوح سافر الى قانون الغاب ، والدليل واضح في ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة من همجية يندى لها الجبين ، هذا فضلا عما تعاني منه حتى بعض الدول العظمى المناوئة للهيمنة الأمريكية المطلقة والسياسة الرعناء لهذه الأخيرة المتمثلة في فرض العقوبات على كل من يعاندها أو يقف في وجهها المتهور الذي أزعج المسالمين وحول حياتهم الى جحيم .
في خضم هذا الواقع المتلاطم ترى روسيا والصين ومن يسير في فلكهما اليوم ضد أمريكا ، ضرورة وضع حد لهذا التغول الغربي المشؤوم ، الذي عاث في العالم ظلما وقهرا وفسادا أمنيا ، سياسيا ، إجتماعيا وإقتصاديا لا من مبرر له سوى تحقيق تلك لأهواء والأجندات الجهنمية الخاصة بأمريكا قبل غيرها ، وعليه لم يعد مقبول اليوم قبل غد العيش في عالم يفتقد الى العدالة والمساواة، والى إستتباب الأمن وفرض الإستقرار ، عالم لا تحكمه الشرعية ولا يؤثر فيه قانون ولا تحترم فيه إرادة الشعوب ولا تحمى فيه حقوق الانسان ولا يكفل لكل ذي حق حقه .
وبناء على ما سبق ذكره من معطيات يجب تعديلها ، يمكننا أن نؤكد وأكثر من أي وقت مضى لكل المظلومين والمضطهدين ، أنه لن يضيع حق وراءه مطالب ، فالإصرار والثبات هما سر النجاح ، والتهاون والخذلان هما أسباب الفشل ، وهذا ما يجب أن يعيه أصحاب القضايا العادلة ، والتي يراها المتخاذلون شائكة ومستحيلة الحل ، فالظالم ليس إلا كمن يطارد السراب وموته محتوم في آخر المطاف ، والمظلوم هو من يرى ظلمة دون حقه وسيصل إليه دون شك ما دام يؤمن ببزوق الفجر .
بقلم : محمد حسنة الطالب