تقاطع اللغة العربية والحسانية في الأجناس الأدبية فن المساجلة نموذجا
الدكتورة يهديها لحسن امبارك
مقدمة
المحور الأول: المساجلة الشعرية: الحدود والتعريف
المبحث الأول: مفهوم المساجلة لغة واصطلاحا
المبحث الثاني:مفهوم المساجلة في الحسانية
المحور الثاني: المساجلة في الشعر الحساني: نماذج دراسية
المبحث الأول:مواضيع المساجلة وأغراضها
المبحث الثاني:قطوف ومختارات دراسية
خاتمة
مقدمة
إن علاقة اللغة العربية بالحسانية، علاقة قديمة حديثة، إذ أن أغلب المفردات المستعملة في الحسانية أصلها عربي صرف، فجل عباراتها ذات جذور عريقة،- إضافة إلى رافد آخر غير العربية، كالأمازيغية مثلا- هذا ما يفسر الثراء الكبير بالمفردات العربية في الحسانية، ” أهل اللغة المذكورة يسمونها كلام حسان …وهي لغة، بعضُها – وهو القسم الأكثر – عربي ظاهر إلا أن تسكين المحرك كثيرٌ فيه ، وبعضُها لا تعرف له اشتقاقا” . وفي ذلك يقول الشاعر محمد فال ولد عيننّا:
إنا بني حسان دلّت فصاحتنا أنّا إلى العرب العرباء ننتسبُ
إن لم تقُم بيّناتٌ أننا عربٌ ففي اللسان بيانٌ أننا عربُ
ولعل البرهان على ما أسلفنا ذكره، هو وجود ألفاظ اندثرت في الفصحى بحيث غابت عن التخاطب والتأليف، وهي متداولة في الحسانية ؛ ويمكن التمثيل لذلك في جدول التبسيط:
الشرح نظيرها في اللغة العربية الشرح الحسانية
يقول ابن كثير:” نتقنا: رفعناه، وهو قوله تعالى: ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم [ النساء : 154 قال تعالى:﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ .
تعبيرا عن الرفع والجذب، والاقتلاع ” نَتَّكْ” و ” انْتِكْ”
والمعنى: أنها أبيات لا رونق فيها ولا روعة قال الباقلاني: فلما انصرفت أفكرت في الكلمة ونظرت في شعره فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع” عديم الجاذبية والملاحة أركاج مغسول
ابن فارس وقِرْواح من :”الماء القَرَاح: الذي لا يشُوبُه غيره، والأرض القَرَاح: الطيِّبة التُّربة ” .
وفي بيت عبيد بن الأبرص: يصف المطر:
فمَن بٍنَجْوَتِه،كمن بِعَقْوَتِه+++ والمُسْتَكِنُّ كمن يمشي بِقرْواح والمعنى: جو بديع، ونسيم العليل ويقال: هذا كَرْوَاحْ زين
قال الزمخشري:” وما ذاك بطبيّ: بدأبي، وفلان طبه المجون” وفي بيت ينسب إلى خفاف بن ندبة:
فلم يك طَبَّهم جُبْن ولكن+++
رميناهم بثالثة الأَثَافِي بمعنى دأب، تعود يقال: “طَبْ عل مَسْلَ”
والمعنى: قال ابن دريد:” والمَرْق: مصدر مَرَقَ السهمُ من الرمِيَّة يمرق مَرْقاً ومروقاً، إذا خرج من الرميّة، ولذلك سُمِّيت الخوارج مارقة لمروقهم .
قال صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق عن الدين التارك للجماعة” بمعنى الخروج يقال: “مْرَكَ ، مَرْكُو”
إلا أن الإشكال المشكل في الحسانية بما تحمله من موروث ثقافي ممتد عبر مئات السنين، أنها لهجة شفاهية قلما تكتب، وقد يرجع السبب في ذلك – حسب رأيي- إلى عدم الحاجة إلى تدوينه في وقت ما، لقوة ذاكرة أهل البادية، وحفظهم والأمر شبيه بما كان سائدا عند العرب في عدم تدوين أشعارهم، وخطبهم، وغير ذلك من صنوف كلامهم، ووجوه بلاغتهم، غير أن الأمر
غير أن التساؤل المطروح هو: ماهي نقاط الالتقاء بين اللغة العربية، والحسانية في موضوع المساجلة؟
الثراء اللغوي في الحسانية
تضم اللهجة الحسانية تراثا شعريا غنيا، شمل جميع مناحي التعبير من غزل وفخر ومدح وهجاء ونقائض وإخوانيات وغيرها، وتراث قصصي يشمل مختلف مناحي الحياة وتخدم كل مجموعة قصصية أهدافاً تربوية أو دينية أو أخلاقية مختلفة، فضلا عن الأمثال والحكم التي تتميز بارتباطها بالإنسان والأرض، التي من خلالها يمكن التعرف على نمط العيش والرؤى من خلال انعكاس البيئة الصحراوية الإجتماعية والطبيعية في ثناياها. ومن خلال هذا التداخل الحاصل في موضوعات المساجلة في الحسانية، يظهر جليا تأثرها باللغة العربية، حيث استمدت منها أغراضها، ومواضيعها، من قبيل الغزل، والتنافس حول الريادة، وغير ذلك من الأغراض. فهذا النمط من المساجلات، كان في العصر الجاهلي، من المفاخرات، والمناظرات الشعرية، وقد سجلت لنا كتب اللغة نحو هذه الشيء الكثير، ومن ذلك ما رواه الرواة من أن أمرأ القيس كان كثيرا ما يعترض الشعراء ، معجبا بشعره” .
المحور الأول: المساجلة الشعرية: الحدود والتعريف
المبحث الأول: مفهوم المساجلة لغة واصطلاحا
أ- المساجلة لغة:
المساجلة لغة من :”السَّجْل: الدَّلو، ولا يكون سَجْلاً حتى يكون فيه ماء، والجمع سِجال وسُجول. وتساجل الرجلان، إذا تفاخرا، وأصله من تساجلهما في الاستقاء، وهي المساجلة. قال الفضل بن عبّاس بن عُتْبَة بن أبي لهب:
من يُساجِلْني يُساجِلْ ماجداً … يملأ الدَّلْوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ
وقال الزمخشري:” وساجله: باراه في الاستقاء” . وقال ابن منظوروفي اللسان: المُسَاجَلة أَن يَسْتَقِيَ ساقيان، فيُخْرج كُلُّ واحد منهما في سَجْله مثل ما يُخْرج الآخر. فأَيُّهما نَكَل فقد غُلِبَ، فضربته العرب مثلاً للمُفاخَرة، فإِذا قيل: فلان يُساجِل فلاناً فمعناه أَنه يُخْرِج من الشَّرَف مثل ما يُخرِجه الآخرُ، فأَيهما نَكَل فقد غُلِب. وتَساجَلوا أَي تَفاخَروا سجل: السَّجْل: مَلْء الدَّلوِ. وأسْجَلْتُ فلاناً. وسِجْلٌ سَجِيْلٌ: أي عَظِيمٌ، وسَجِيْلَةٌ مِثْلُه. والحَرْبُ سِجَالٌ: أي مَرَّةً منها سَجْلٌ على هؤلاء وسَجْلٌ على أولئك. والمُسَاجَلَةُ: المُبَارَاةُ في العَمَلِ أيُّهُما يَغْلِبُ صَاحِبَه .
ب- المساجلة في الاصطلاح
قال الميدانيّ في: المساجلة أن تصنع مثل صنيع صاحبك من جري أو سقي، وأصله من السّجل وهي الدّلو فيها ماء قلّ أو كثر. وحقيقة السّجال المغالبة بالسّقي بالسّجل، ومنه المباراة والمفاخرة والمعارضة .
المبحث الثاني:مفهوم المساجلة في اللهجة الحسانية ( لكطاع)
يعد فن المساجلة فنا ارتجاليا، يستوجب حضور الخاطر، وسرعة البديهة، في مجاراة الخصم، وهي “غرض من أغراض الشعر الحساني، كما هو الحال بالنسبة للشعر العربي، وأهميته أنه بمثابة محك للشاعر، وحافز على الإبداع؛ لكونه منافسة بين شاعرين أو أكثر على تقديم الأجود في وقت وجيز، لذلك فأرى أن هذا الغرض ضرورة لكل شاعر يطمح إلى تطوير مستوى إبداعاته كما أنه فرصة للترويح والأنس بين الأصدقاء لذلك يطلق عليه البعض ”أدب الإخوانيات” .
المحور الثاني: المساجلة في الشعر الحساني: نماذج دراسية
فن “لكطاع” من الفنون الأدبية الجميلة والجذابة، خصوصا إذا كان بين أهل التخصص الكبار من أدباء متمرسين (إعُودْ طايَبْ وَدِيبْ أُجَابَرْ المَقْصَدْ)، أما شكله وبته ورويه فيتحكم فيهم من بدأ لكطاع، وتارة يخرج بعض لمغنيين عن هذه القاعدة، أما طبيعته وشكله فتارة يتكون من “أطلع أو كفان” أو هما معا، كما يكون طويلا أو متوسطا، حسب المواضيع التي تناولها الشاعر. وعادة ما تكون مرتبطة بالفخر أو الغزل، ” صراع على فتاة” وأحيانا أمور أخرى، طريفة تندرج ضمن مسمى الاخوانيات، على غرار مساجلات أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، حيث تتناول مواقف شعراء أصدقاء يتبادلون التهم فيما بينهم بالفشل في الطبخ، أو غيره من الأمور الطريفة، خلال رحلة أو ماشابه ذلك.
– نموذج من الغزل
لا يختلف موضوع الغزل في الأدب الحساني، عن نظيره العربي، إذ إن الشاعر في شعره، يقف على الأطلال ويصف المحبوبة، ومن ذلك قول الشاعر:
الشاعر:
سولتك يا نت ذي سؤال ***** يالي حسنك فاق الجمال
حد ادورك ماه محتال ***** شنه يا صيدة قاضيتك
أسألك سؤالا، يامن حسنك فاق الجمال
عن من يريدك غير محتال كيف السبيل إلى ذلك
الطفلة:
هذا كامل زين فمجال ***** الحب وراني راضيت
يغير الا خالك سؤال **** اكول شنهي هويتك
كلامك هذا جميل في مجال الحب، وأنا راضية بك
لكن هناك سؤال، اكشف لي عن هويتك، من تكون ( القبيلة)
الشاعر:
هويتي زين يالجلال ***** حامد مولان ورضيتك
شاعرو نسمع شي ينكال ***** والبدع الزين فناحتك
الطفلة:
لعت لي عايد فنان ***** عطيني طلعة ماليتك
يسوى لبير فذو لوزان ***** ولى فاغو تمدح خيتك
الشاعر:
جاتك دي طلعة فالمقام ***** لي بيها نكفل بيتك
كانو لبير شورك كلام ***** ولى سيني فيه احكيتك
الطفلة:
الا رانك توزن لكلام ***** يا الشاعر كول اني جيتك
جيتك حتى وبكل حزام ***** من بين الغيدات شريتك
مساجلة بين شخصين: رجل وامرأة، يبرز فيها الأديب، مهارة المساجلة في غرض الغزل، وتعريض الرجل المرأة، في أحوال الخطبة، وكان غرضا أدبيا من أغراض الأدب الحساني، بحيث يعرض الرجل نفسه على الفتاة، بهذه الطريقة اللطيفة.
– نموذج من التباري حول الأفصح في قول الشعر
سدوم:
بالغن هك ان دخيل — فيه طبع زين ثقيل
أبدع فلبدع بلا مثيل — ول خيام القبيل
ادخيل :
اخبيطك فلبيظان شاع — انوا فلهول بلا نزاع
أبدعك فالبدع بلا كطاع — شاع عل ذيك الحيل
المبحث الأول:مواضيع المساجلة وأغراضها
وفن لكطاع نوع من التباري بين شاعرين أو أكثر يرد كل واحد منهم على الآخر،” حيث تناول فيه الشاعر عدة أغراض تهم حياته، وبيئته، ويقع التنافس بين الشعراء، في محاولة تفوق كل منهم، ويمكن أن يكون موضوعها حديث الساعة؛ سياسيا، أو غزليا أو مديحا، أو غير ذلك” . اعتمد المجتمع الصحراوي على الشعر الحساني في نقل واستقاء الأخبار وتسجيل الحوادث والوقائع حيث لعب الشعر الشعبي إلى جانب غيره من القصص والحكايات الشعبية،دورا كبيرا في تدوين التاريخ وبلورة قيم واهتمامات المجتمع، فكان الشعر الحساني لسان حال المجتمع، وشكل بذلك وسيلة الاتصال شبه الأوحد والأكثر تداولا لنقل الآراء والمواقف الأدبية والأفكار والحكم بين الناس وإثراء التواصل بين الأجيال.
– مواضيع اجتماعية:
تعد الطبيعة الاجتماعية، وجلسات الشاي،في المجتمع الصحراوي، الملهم الأساسي في قول الشعر ومن ذلك:
يالمانك بوجادي— فشغلة ياويلي
عدلي برادي — والحملي زمبيلي
الشرح: يا أيها المحترف في عملك، أصلح إبراق الشاي
والحم آنية حفظ الشاي
وفرد عليه عبد الله :
لا بد نلحملك — برادك يخليك لي
وملّي نسمح لك — من كد أتحوصيلي
لابد من اصلاحه
وأيضا أتنازل عن أجرتي
فأجابه المحجوب قائلا:
شغال وبيظاني — يغل عندي جيلي
وغرش عني ماني— ولد أم صبيلي
عامل ذو بال طويل، يحبب عندي من هم من جيلي
وتأكد أني لست ممن لا يستطيعون تحمل المسؤولية
فرد عليه عبد الله :
بدعك ذا حجللي — البدع الأصيلي
وألا عنك خلي — أباش أتوللي لي
الشرح: شعرك هذا يذكرني بالأشعار الأصيلة
واترك أشياءك عسى أن ترجع لي مرة أخرى
فقال المحجوب:
نعرف عنك تاقي — من جيل وصيل
وعدل كد الباغي — يخلي فلي ل
فأجابه عبد الله :
الشرح: أعرف أنك تقي من جيل وأصيل
وافعل ما تريده يا صديقي فيما هو لي
أظحك لي ووزن لي — ذ الساعة وحكيل
لعل يرد لي — بدعك الزين لحال
الشرح: ابتسم وقول لي شعرا
عسى أن يعيد لي شعرك البديع لسابق عهدي
نموذج : مساجلة بين صديقين في السؤال عن الأحوال والشوق للقاء:
اشطار عندك من لخبار — يخيار آلي عندو تندار
خبار الموزون ي البار — بصحابك لي نوبة ماي
لحكن منك كاف اعتبار — وأنا من باب الوقاي
عن حالك نختيرآنسالك — ونسالك عن يم أراي
موزونك ونتم آنسالك — طلعة ونسالك حكاي
الشرح:
ما الجديد عند من الأخبار يا أفضل من يسأل عن أخبار الأشعار؟
يا أيها البار بأصدقائك
وصلني منك بيت شعري” كاف” قاف، وأنا من باب ال
أفضل السؤال عن حالك
احمدناه حمداني:
ما طاري في كون آني — تاري عت آكطاع آمغني
مذالي عنو يمكَني — كان آفدهر اروز آمعاي
لكطاع أكيف آلي عني — شطن شِ من دون آغناي
مول غاية كان آلبداع — الطاهر وأنا مُناي
كل آنهار اجيني بكطاع — ذاك هوا عندي راس آلغاي
الشرح:
لا جديد عندي غير أني مشتاق لمساجلة شاعر مبدع
لي مدة عن مجاراته، لو يستطيع نظم مساجلات
كأنني مشغول بنظمه عن نظمي
صاحب الغاية كان المبدع الطاهر وأنا أمنيتي
لو يأتيني كل يوم بمساجلة
تلك أغلى غاية عندي
خاتمة
في هذا العرض الموجز الموجز أردت استخلاص بعض النتائج المهمة في علاقة اللغة العربية بالحسانية، وما قيل عن المساجلة، ينطبق على كل الأجناس الأدبية العربية، وإن سنحت لي الفرصة لابد لي إن شاء الله من الحديث عن في ربطه باللغة العربية باعتبارها المصدر الملهم للإنسان الصحراوي فضلا عن موروثه الثقافي وعاداته ومجتمعه الذي يستمد منه كل طاقته اللغوية والفكرية وغيرها.