الدمار البارد !
محمد حسنة الطالب
لا أحد ينكر في وقتنا الحالي استفحال ظاهرة مدمرة وقاتلة للدول والمجتمعات، ظاهرة تدوي اليوم في سماء ملبدة بالأوهام وغيوم الخراب التي لا تمطر إلا على العابثين بالمبادئ والأخلاق، في الوقت الذي يتعرض فيه الشرفاء والوطنيون إلى الجفاء وحياة التعاسة والضياع.
الفساد ظاهرة مدمرة ولكنها بأسلوب بارد، يسري في مفاصل الدول والكيانات كالموت البطيء تماما، ويجعلها تحتضر.
لقد ازدادت هذه الظاهرة المرضية بشكل مخيف في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء، وبدأت من أعلى هرم في السلطة، واستقرت في مختلف امتداداتها في الدولة -أي دولة-، وزادت من اتساع الهوة بين القمة الفاسدة المتنفذة، والقاعدة المغلوب على أمرها؛ ولهذا كان لزاما فضح خفايا هذه الظاهرة وعواقبها، وهو الشيء الذي عمد الباحثون في علم الاجتماع إلى دراسته، بل وإلى تصنيفه ومعرفة مظاهره، وسبب السكوت أو التغاضي عنه، خاصة وأنه كالمرض الخبيث لن يؤدي الصبر عليه، إلا إلى مزيد من إشاعة الأزمات وتلاشي الإمكانيات وتدهور الأمم واضمحلالها.
ومن بين ما توصل إليه الباحثون في تصنيف هذه الظاهرة المقيتة، هو أن لها مستويات وأنواع وأقسام، مثلما لها مظاهر وأوجه وأسباب أيضا لتجاهلها وعدم معالجتها.
ففي مستويات الفساد يميز المختصون في الإدارة بين مستويين، هما:
الفساد الأكبر: ويرتكبه رؤساء الدول والحكومات والوزراء ومن في حكمهم، وأساسه الطمع والجشع، وهذا النمط هو أعلى درجات الفساد وأكثرها بذخا وإسرافا وهدرا للمال العام.
الفساد الأصغر: وهو فساد الموظفين في القطاعات المختلفة، وأساسه الحاجة الاقتصادية “المادية”، ويحدث عادة عندما يقوم موظف بقبول أو طلب رشوة أو ابتزاز لتسهيل عقد أو إجراء معين إلى غير ذلك من التصرفات التي يتم فيها استغلال الوظيفة لأغراض شخصية صرفة.
أما أنواع الفساد فيصنفها الباحثون حسب انتشاره:
فساد دولي: ويأخذ هذا النوع أبعادا واسعة وكبيرة تصل إلى نطاق عالمي، وذلك ضمن نظام الاقتصاد الحر الذي تترابط فيه الشركات المحلية والدولية بالدولة والقيادة السياسية، على أساس المنافع الذاتية المتبادلة التي يصعب الحجز بينها، ولهذا فهو أخطر وأوسع أنواع الفساد.
فساد محلي: ويكون داخل البلد الواحد، وهو فساد صغار الموظفين والأفراد ذوي المناصب الدنيا في المجتمع عادة، والذين ليس لهم أية ارتباطات بشركات أجنبية.
وعن أقسام الفساد يرى الباحثون في الشؤون الاقتصادية قسمين اثنين لهذه الظاهرة التي أتت على الحقوق وحتى الواجبات للإنسان البسيط في مختلف تواجداته:
1ــ فساد القطاع العام: وفيه تصبح الدولة مرتعا خصبا للإنحرافات والتجاوزات الإدارية التي تسهل السرقات المالية، والاستحواذ على ما أمكن من الإمكانيات العامة للدولة، الشيء الذي من شأنه تعطيل مؤسساتها والحد من خدماتها وواجباتها تجاه المواطن، والحؤول في النهاية دون نماء مثل هذه الدولة وتقدمها في مختلف المجالات.
2ــ فساد القطاع الخاص: وهذا القسم من الفساد تتسبب فيه الشركات، حيث تشير تقارير لمنظمة الشفافية الدولية إلى أن الشركات الأمريكية هي أكثر الشركات التي تمارس أعمالا غير مشروعة، تليها الشركات الفرنسية، ثم الصينية والألمانية، وهذا ما يفسح المجال لتدوير وهدر أموال طائلة، حيث تشير تقارير خاصة لصندوق النقد الدولي، أن مابين80% إلى 100% من الأموال التي أقرضتها البنوك الأمريكية للدول النامية، تعود مرة أخرى إلى الولايات المتحدة وسويسرا وتودع في بنوكها بحسابات شخصية لمسؤولين من تلك الدول، كما يشير تقرير نشرته الصحف الأمريكية إلى أن هيئة الأمم المتحدة تهدر سنويا ما يقارب 400 مليون دولار بسبب الفساد والتبذير وسوء الإدارة.
ويرى الباحثون في شأن الفساد ووفقا لمجريات الواقع في مختلف البلدان، أن له تجليات ومظاهر متعددة يحصرونها في الآتي:
أـ الفساد السياسي: وهو مخالفة القواعد والأحكام التي تنظم عمل المؤسسة السياسية في الدولة، ويتميز عن الفساد الإداري كونه يحتوي على شقين مالي وأخلاقي، ومن مظاهره الحكم الشمولي الفاسد، وغياب الديمقراطية، وفقدان المشاركة، وفساد الحكام، وسيطرة نظام حكم الدولة على الاقتصاد، وتفشي الفئوية والقبلية والعشائرية والطائفية والعرقية، واستفحال المحسوبية.
ب ـ الفساد المالي: ويتجلى في مخالفات القواعد والأحكام المالية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في الدولة ومؤسساتها، والاستخفاف بأجهزة الرقابة والمحاسبة؛ ومن مظاهر هذا الفساد الرشاوى والاختلاس، والتهرب الضريبي، وتخصيص الأراضي، والمحاباة والمحسوبية في التعيينات الوظيفية، وإعادة تدوير المعونات الأجنبية إلى الجيوب الخاصة، وقروض المجاملة التي تمنح بدون ضمانات، وعمولات عقود البنية التحتية، والعمولات والإتاوات المحصلة بحكم المناصب، وظاهرة الإسراف في إنفاق المال العام، واستقدام الخبرات الأجنبية ذات التكلفة المالية العالية بدل الخبرات الوطنية التي هي على أتم الاستعداد بتكلفة مالية رمزية.
ج ـ الفساد الإداري: وسببه تلك المخالفات التي تصدر عن الموظف العام أثناء تأديته لمهام وظيفته، وهذا يحدث عادة نتيجة خلل في منظومة التشريعات والقوانين والضوابط، ومنظومة القيم الفردية التي لا ترقى للإصلاح وسد الفراغ، والوقوف على الثغرات ومراجعتها؛ ومن مظاهر هذا الفساد، عدم احترام أوقات ومواعيد العمل، عدم تحمل المسؤولية وإفشاء أسرار الوظيفة، وعدم القدرة على تحقيق أهداف المنشأة أو المؤسسة، وتغليب المصالح الشخصية على مصالح العمل وتقبل الرشاوى، وامتهان الفبركة والتزوير وما إلى ذلك.
د ـ الفساد الأخلاقي: ويتعلق بسلوكيات الموظف وتصرفاته الشخصية، كأن يرتكب فعلا فاضحا مخلا بالحياء في أماكن العمل أو أن يلعب القمار، أو يجلب أو يتناول المخدرات والخمور، أو يطلب هدية أو عمولة من أي شخص، أو يسيء إلى مصلحة الجمهور، أو أن يجمع بين الوظيفة وأعمال أخرى خارجية دون إذن من إدارته، أو أن يستغل السلطة لتحقيق مصالح شخصية له على حساب المصلحة العامة، أو أن يمارس المحسوبية والقبلية والطائفية والعنصرية بأشكالها كلما لجأ المواطن إلى الإدارة.
هذه هي صنوف وتجليات ظاهرة الفساد، ويبقَ السكوت عنها هو الخطر في حد ذاته، وفي هذا يرى الباحثون عوامل قد تدفع الأفراد والمنظمات والمؤسسات في المجتمع إلى غض النظر عنها، ومن بينها لا للحصر:
ـ غياب دولة المؤسسات أو ضعف السلطة.
ـ غياب الديمقراطية والحرية والمشاركة.
ـ غياب القانون والتشريعات وضمانات حقوق الإنسان.
ـ عدم استقلالية القضاء.
ـ قلة الوعي وعدم معرفة الآليات والحسابات والقوانين والنظم الإدارية.
وظاهرة الدمار البارد هذه، أي الفساد، تتسلل إلى البلدان دون تمييز، كالموت الذي يجعل الجسد جثة هامدة بعد عناء طويل، ولذلك كانت مظاهره وأوجهه في نظر العارفين بخطورته، تعد ناقوس خطر محدق، وجب التصدي له واستأصاله قبل أية مآلات مخيبة وقاتلة لا ينفع معها الندم في المستقبل.