كتاب وآراء

ذكرى رحيل البسيط او خليل الناس، الطيار الذي إختار ملامسة الأرض، تواضع ليلامس آلام البسطاء.

يقال .. ” .. أن الحقيقة لا تقول أبداً ما لديها ولا تكشف عمّا لديها من لطافة الروح إلا في جو من البساطة .. ” ..

في مثل هذه اليوم تحديدا في ذلك المساء في مثل هذا اليوم، كان الخليل سيد أمحمد يحضر إجتماع برئاسة الجمهورية يترأسه الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز، كان وقتها الخليل مسؤول أمانة التنظيم السياسي للجبهة، بعد إنتهاء الإجتماع سيغادر الخليل الشهيد الحافظ بوجمعة وسيصل على متن سيارته الى ولاية بوجدور وسيشعر بالإرهاق وسينقل الى مستشفى الشهيد البشير الصالح حيث سيفارق الحياة، هكذا كانت آخر دقائق الرجل الذي ظل يعمل حتى أخر ساعة في عمره.

قبل سنوات كنت قد كتبت شيئا يشبه المقال تحدثت فيه عن أشخاص ومؤسسات ليسوا في خدمة القضية الوطنية من وجهة نظري، عرضته على صديق مقرب كنت دائما أسلمه النسخة الأولى من كل “خربشاتي” ليقرأهاّ ويضحك فقد كان ولا يزال يعتبر أسلوبي اسلوبا ساخرا دراميا يحدث خليطا من الضحك والبكاء في نفس الوقت، قرأ المقال وسألني بعفوية تامة: لاحظت أن هناك إسما واحدا غاب عن تناولك إنه الخليل سيدي امحمد”!؟ ..
كان تساؤل الصديق في محله، فلم يكن الخليل سيدي أمحمد الشخص الطيب والمتواضع والبسيط من نوع ولا من صنف هؤلاء الذين لا يخدمون القضية الوطنية أو بالأحرى يخدمون بدل القضية أنفسهم أولا ومن ثمة أشياء أخرى ليس الوقت ولا المزاج مناسبان للتطرق إليها، فقبل كل شيء عاش الرجل ومات في سبيل ومن أجل مبادئ آمن بها، عاش في خدمتنا جميعا حتى رحل لتبكيه قلوبنا ولتدمع من أجله عيوننا وليخلد والى الأبد في ذاكرتنا فصدق فيه قول شهيد الحرية الولي مصطفى السيد ” إذا أرادت القدرة الخلود لشخص سخرته لخدمة الجماهير”
الخليل، رجل هادئ جداً، قليل الكلام، عظيم الأدب، حليماً كريماً رقيقاً باسماً، ولد الراحل في الرابع عشر من فبراير عام 1947 في منطقة قليبات الفولة بالصحراء الغربية، إلتحق وهو في سن الشباب بالعمل النضالي في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب ليتقلد عدة مهام من بينها عضوا في المكتب التنفيذيّ، قبل أن تسند إليه مهام أخرى من بينها وزيرا للتعليم ووزيرا لشؤون الأرض المحتلة والجاليات وسفيرا بالجزائر وواليا على عدة ولايات وهو المنصب الذي أحبه بعد وزارة التعليم لأنه كان يفضل دائما القرب من المواطنين ليعيش ويتنفس آلامهم وآمالهم، عندما كان وزيرا للتعليم كان دائم التواجد في كل المؤسسات، وبعفويته المعهودة لم يكن ذلك الشخص الذي يعمل وفق قواعد بروتوكول، فالرجل الذي كان بإمكانه أن يكون طيارا يجوب بقاع العالم لا يحب سوى الجلوس على الأرض وهو يستمع الى إنشغالات الناس صغارا وكبارا.
كان الخليل خليلا وصاحبا وأبا لكل الصحراويين، بسيطا ومتواضعا، عفويا وطيبا، عندما كنت ألتقيه صدفة كان يحضنني وبقوة، بقوة شديدة وكأنه يلتقي صديق عمر إفتقده منذ مدة، وهو الحال مع الجميع، مع كل الصحراويين.
الفقيد نقل ذلك التواضع والبساطة الى عائلته خاصة أبنائه الذين درسوا معنا وكانوا نعم الأصدقاء والزملاء أخلاقا وتواضعا، كانوا جزءا منا يشتركون معنا نفس المعاناة والآلام وقلة الإمكانيات، لم نشعر يوما بأنهم أبناء رجل سلطة أو مال أو جاه، ونفس التواضع والبساطة تميزت به أيضا عائلة الفقيد التي تسكن خيمة عادية وبيوت طينية وسط دائرة بئر قندوز وهي نفس الدائرة التي أقطن بها قبل أن تنتقل عائلة الخليل مؤخرا الى ولاية بوجدور بعد أن دمرت الأمطار كل بيوتهم وأجبرتهم كغيرهم من العائلات على الرحيل الى مكان آخر للبناء من جديد.
يشهد التاريخ في حياة الأمم والشعوب مراحل يُسجل فيها لرجال عظماء أسمى ما قد يتركه البشر في مسيرة حياتهم من أعظم حالات العطاء، والتفاني في خدمة المبادئ والقيم الإنسانية العظيمة التي تشيع العدالة، والأمن والأمان، ولطالما سجل التاريخ أسماء رجال مضوا، وتركوا سجلاً مفعماً وحافلاً بسيرة حسنة، وإرث حضاري وإنساني كبير تتذكره الأجيال جيلا بعد جيل.
واليوم والصحراويون يتذكرون صاحب المبادئ الخليل سيدي امحمد -رحمه الله- فإنهم يعلمون أن الراحل قد ترك من بعده سجلاً عظيماً لا يبقى سوى لرجال قدموا طيلة رحلة حياتهم عطاء كبيراً، وتفانوا في سبيل خدمة وطنهم، لقد كان الراحل قدوة للرجال الذين حملوا الأمانة بإخلاص كبير، وأثَّروا في مفاصل حياة أمتهم بشكل غير مسبوق، فقد صنع -رحمه الله- وعلى مدى الأربعين عاماً من عمر الجبهة مدرسة في الإخلاص والبساطة قبل ان يترجل أخيرا ذات ليلة هادئة وسط شعبه الذي عاش وكرس حياته في خدمته.
انتقل الخليل سيدي امحمد رجل السمعة النظيفة الى جوار ربه يوم السابع والعشرين من ابريل 2013، يوم وفاته كان الراحل يحضر اجتماعا بمقر رئاسة الجمهورية يزاول مهامه الصعبة فقد أسندت إليه رئاسة اللجنة التحضيرية لتخليد مرور أربعين سنة على تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب.
شاء القدر أن يرحل الرجل أياما قبل التخليد بعد أن استكمل كل التحضيرات وأدى واجبا عمره بعمر الجبهة، فخلال أربعين سنة لم يكن الخليل متخاذلا ولا كسولا، لم يكن منافقا ولا متعجرفا، لم يكن خائنا ولا متراجعا، كان بكل بساطة رجلا متواضعا، متفانيا في عمله، كان رجلا محبوبا، بشوشا ومتفائلا، متيقنا من حتمية النصر الذي كان يراه دائما قريب مهما بعد.
أخيرا صعدت روح الطيار الى السماء، الطيار الذي رفض طيلة حياته أن يجوب السماء بعيدا عن الناس صعد وهذه المرة الى رحمه الله.
عبداتي الرشيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق