كتاب وآراء

عملية نواكشوط … الجزء الثالث… شهادة المقاتل محمد ادويهي حول تفاصيل العملية.

*- طريقة الانسحاب وتفجير انابيب بنشاب..

بعد وقت متأخر من تلك الليلة، (ليلة الثامن الى التاسع من يونيو 1976) اعتقد ان الساعة تجاوزت الثانية ليلا، حين استاء الجميع بعد سماع ذلك البيان، وتواصل التشاور بين الولي مصطفى السيد رحمه الله وبعض الرفاق.

اتصل به احد افراد المجموعة وكان -رحمه الله- جالسا، وهي اول مرة يجلس فيها تلك الليلة.

كنا نصنع الشاي عند سيارات السيطرة، وقد افترشنا بطانيات (انبدوات)، لم نتناول العشاء، ولم نطبخه اصلا، كنا نشرب القليل من الماء و كؤوس الشاي فقط.

فقَدْ فَقَدَ الجميع شهية الأكل، بعد سماعنا لذلك النباء، واصبحنا نفكر في رفاقنا الذين ذهبوا لتنفيذ العملية.

جمعنا آنية الشاي، وحينها اعتدل الولي واقفا، وعرفناه رحمة الله عليه قليل النوم وقليل الجلوس، متأبط سلاحه دوما، ويضع حزام طلقاته في محزمه، تلك ميزة عرفه بها الجميع، منذ ان انطلقنا وهو يرتدي (دراعة) لباس الرجال، من قماش يسمى محليا (الشكة) او فوقية (قندورة) وسروال تقليدي (استنب) نصف بيصة ابيض اللون، من قماش (الشكة) ايضا.

كان دائما يضع حزام طلقاته فوق الدراعة، ولثامه في رقبته، لم نره يوما قد وضعه على رأسه او اخفى به وجهه.

تلك هي أول مرة جلس فيها بعد ساعات طويلة من الوقوف، جلس متكئا على كرسي سيارة قد اسند على احدى عجلات سيارة لاندروفر.

عند حدود الساعة الثالثة اصدر امرا بتشكيل القوة على الشكل التالي:

الدوشكات في الأطراف، وفي الوسط المشاة و الشاحنات، والمدفعية في الخلف، سيارات في الكشف الامامي واخريات في الخلف.

هكذا هي خطة السير، على ان تكون القوة في اتم الجاهزية القتالية، تحسبا لأي طارئ، وبذلك شكلت القوة في اسلوب منظم للدفاع.

كنا نعتقد ان السير سيكون باتجاه انواكشوط، لم نكن نعلم الى اين نتجه، وبعد انطلاقنا عرفنا اننا في خطة انسحاب باتجاه الشرق، وذلك من خلال المعالم ومطالع النجوم، لأنه لم يخبرنا الولي رحمه الله عن إتجاه سيرنا حتى انطلقنا شرقا. نحن كذلك في مقر السيطرة (ادارة المعركة) لا تدري الى اين نتجه، ولكننا من خلال المطالع ادركنا اننا نتجه شرقا.

وبينما نحن نسير في تلك الظلمات ودرجات الحرارة مرتفعة، هب نسيم بارد قليلا، كنا نسير بصمت ومعظم السيارات كانت تعمل بالبنزين (اسانس)، وصوتها شبه منعدم، فقط الشاحنات و سيارة او اثنتين تصدر اصواتا، لانها تعمل بالمازوت (كزوال)، استمر المسير هكذا وبدات الرؤيا تتضح شيئا فشيئا، وتغيب النجوم ويظهر شعاع النهار قبل الشروق.

فجأة وعند تمام وضوح الرؤيا، ظهرت لنا طائرت قادمة إلينا من تجاه الشرق، وبدأت تقصف أمامنا من اجل ان نتوقف وكان هدفها عرقلة سيرنا، حاولنا من خلال سلاح الدوشكة ان نصيبها، ولكنها كانت لا تنخفض حتى تكون في مدى اسلحتنا، كانت فقط تقصف امامنا ومن ارتفاع لا تصله طلقاتنا، خلفت بيننا جرحى حيث اصيب بعض الرفاق بجروح اثناء ذلك القصف.

واصلنا مسيرنا شرقا وحاولنا ان لا نتوقف رغم القصف بالطائرات، لم نتوقف فعلا حتى وصلنا الى منطقة بنشاب.

في صباح ذلك اليوم وهو يوم التاسع من يونيو 1976، وصلنا الى ذلك المكان غير البعيد من بئر بنشاب، وبدأ البعض يصنع الشاي، عقد الولي -رحمه الله- اجتماعا عاجلا للجميع، وقال لنا انه من ضروريات البقاء على قيد الحياة في تلك البيداء، ان نحمل اكبر قدر من الماء الصالح للشرب، وذلك لانه من المحتمل ان تكون كل الابار في طريق العودة مغلقة امامنا، او فيها كمائن تنتظر وصولنا لذلك لابد من اخذ مايكفينا من الماء.

كان الولي رحمه الله يخطط لانسحاب ناجح ويضع لكل شئ حساب نظرا لطول الطريق وصعوبته، وطريق العودة ستختلف حتما عن طريق الذهاب.

ويعتبر ماء بنشاب من اعذب المياه في تلك المنطقة، وهو بئر شيدت عليه عدة خزانات، يحتوي الكثير من الماء ومياهه معدنية عذبة، يقع شمال شرق نواكشوط بحوالي 165 كلم و غرب اكجوجت بحوالي 80 كلم، يعتبر خزان المياه الاساسي الذي تشرب منه مدينة اكجوجت.

تمركزنا في موقع قريب منه شمال شرق البئر، وغير بعيد منه راينا بعض تجمعات الخيم (فركان)، تتكون من خيمة او اثنتين او ثلاث من اهل البادية، لاحظنا انها تصطف في اتجاه الشمال الغربي من المنهل دون غيره.

افرغنا ثلاث براميل بين مختلف الاواني من قِرب و قناني كبيرة و صغيرة وقناني الجنود الفردية وغير ذلك من اشياء يمكن ملئها من ذلك الماء الذي كانت تحمله تلك البراميل الثلاثة.

كانت الطائرات لازالت تحلق فوقنا و تضرب من حولنا وكنا نرد عليها دوما بأسلحة الدوشكا، ولم تتمكن من الاقتراب، كانت هناك طائرة صغيرة بيضاء حلقت فوق موقعنا عدة مرات، وقال لنا الولي وهو يتناول معنا الشاي اتدرون ان تلك طائرة استطلاع مرتبطة بقوة برية توجهها نحونا.

كانت الطائرة تغيب عنا بين العشرين دقيقة الى نصف ساعة، حتى اصبحت لا تغيب اكثر من ربع ساعة، وذلك يدل على اقتراب القوة من موقعنا.

احد افراد المجموعة له خبرة بالمنطقة اكد ان موقع بالنشاب تمتد منه انابيب الماء الى مدينة اكجوجت، قال الولي رحمه الله ان هذه الخيم التي تسكن بالقرب من هذا البئر، كلها عائلات صحراوية و هذه الارض اغلب سكانها صحراويين و بعض العائلات الموريتانية ايضا، ويجب ان تحترم ولا يتعدى احد على ماشيتهم مهما كانت الظروف، لان مهمتنا معروفة ومحددة، وليس بيننا وهذا الشعب سوى الاحترام و التقدير.

عندما علمنا ان مدينة اكجوجت تشرب بواسطة تلك الانابيب الممتدة من بنشاب وبعد التحري، و التأكد من ذلك قال الولي يجب ان نفجر هذه الانابيب، كي تصبح مدينة اكجوجت باكملها دون ماء و نزيد نظام ولد داداه مشكلة اخرى على مشاكله.

امرني الولي بصفتي رئيس مجموعة الهندسة، بالتحضير لمهمة التفجير، و بدات ومجموعتي في تحضير العبوات التي سنفجر بها الانابيب، و حضرناها جيدا و جربنا بعض الصواعق قبل تنفيذ العملية من خلال مولد كهربائي كنا نحمله، كل شئ جاهز واصبحنا فقط ننتظر ان نعرف المكان الذي سيتم تفجيره.

كانت السيارات الثلاثة التي تم افراغ براميلها من الماء من اجل تعبئتها مجددا من مياه بنشاب جاهزة للذهاب الى البئر، وهي سيارة المحطة وسيارة وليدة ولد اللَّيلْ ولد احمد سالم رحمه الله كانت عبارة عن سيارة صغيرة (كورطة) والسيارة الثالثة للمشاة.

كان الشهيد الولي مصطفى السيد قد ركب في سيارة لاندروفير المغنومة من الجيش الموريتاني منذ ان غادرنا كرارة ام التونسي حتى وصلنا الى بنشاب.

بعد ان اكملنا تحضير العبوات، وتأكدنا من جاهزيتها، قال لنا رحمه الله ان نضعها في تلك السيارة وتذهب معها مجموعة الهندسة لزرعها في مكانها وترافقها سيارة اخرى من اطقم دوشكا للحماية، وما تبقى من القوة يواصل مسيرته وسنلتحق به فور انتهاء المهمة ان شاء الله.

صعدت المجموعة المكونة من تسع مقاتلين وانا هو رقم عشرة، عندما هممت بالركوب، ووضعت رجلي على حافة ركن السيارة الخلفي الايمن، قال لي الولي رحمه الله وهو لازال جالسا على الارض: “محمد عليك ان تنزل لانك ستذهب مع سيارة المحطة، وهي السيارة التي تحمل جهاز الاتصال مع مختلف اطراف قوتنا الامامي والخلفي، وكانت تلك السيارة تحمل الشهيد ماموني ولد عند آلله وهو المكلف بالاتصال ويقودها المقاتل محمد ادلال وثالثهم عبد الله ولد حمد ولد اخليل ممثل الجبهة حاليا في منطقة لاريوخا بإسبانيا وانا هو رابعهم، ورافقتنا سيارة وليدة و رفيقه وسيارة من المشاة.

ذهبت سيارة لاندروفير التي تحمل الولي و مجموعة الهندسة لزرع العبوات، ورافقتها سيارة اخرى تحمل طقم دوشكا للحماية.

انطلقنا نحو فتحة البئر، حيث وجدنا احواض عملاقة تصب فيها انابيب على مدار الساعة، وفي محيط تلك الاحواض تشكلت كثبان رملية، بعثنا احد رجالنا ليقف حارسا على قمة احداها من جهة الجنوب، كي نؤمن ذلك الاتجاه.

كانت الطائرة تحوم قريبا منا وترسل بعض القذائف وتقترب بقدر كبير من الأرض ملأنا البراميل بسرعة.

هكذا انفصلت عن سيارة مجموعة الهندسة مع الولي وبأمر منه، والسبب الرئيس هو كونني كنت احمل قطعة كلاش (ار بي كا RPK)، لها مسندين اماميين ترتكز عليهما اثناء الرماية، لها ثمان خزائن وفي كل خزينة 40 طلقة، كانت مهمتي هي اطلاق النار على الطائرة في حال اقترابها منا، او دخولها في مدى ذلك السلاح.

بعدما ملأنا البراميل وبشكل سريع ركبنا سياراتنا، كانت سيارة وليدة رحمه الله تعمل بالمازوت (كزوال) وهي سيارة صغيرة (كورطة)، من غنائم عملية ميجك، وهي في الاصل سيارة القائد العسكري الموريتاني فياه ولد المعيوف، وقعت تلك العملية في شهر ابريل، اي قبل شهرين تقريبا، وكنت مشاركا فيها، ورايت تلك السيارة عندما تم غنمها مع بعض العتاد، وما يميزها انها السيارة الوحيدة الصغيرة (كورطة) ضمن ست او سبع سيارات اخرى.

وبعد انتهاء عملية ميجك قال لنا بعض الاسرى الموريتانيين في تلك الواقعة، ان تلك السيارة هي سيارة فياه ولد المعيوف، وقد انسحب من المعركة وهو مجروح على الخد.

هي سيارة انجليزية الصنع، وما يميزها عن غيرها انه قد تم تركيب لها جهاز تكييف بين المقعدين الاماميين، رغم انها سيارة مكشوفة، مما ادى الى نزع الكرسي الاوسط الامامي.

ولذلك كانت السيارة تحمل فقط سائقها وليدة و مقاتل اسمه محمد امبارك، لم اكن اعرفه من قبل ولا اعرف اسمه الثلاثي.

قال لي وليدة ان السيارة تكاد تتوقف لانها فارغة من المحروقات، قلت له ولماذا لا تملأ الخزان عندما كنا مع الشاحنات التي تحمل المحروقات، لأن هذه السيارات التي بحوزتنا الان كلها تعمل بالبنزين، ولايمكنك الاستفادة منها.

وبعدما اكملنا السقاية ونحن على عجلة من امرنا لم نتمكن من تحديد اثار السيارات الاخرى الاي ذهبت لزرع العبوات، وبدأنا نتساءل لانه كانت هناك اثار كثيرة واختلطت علينا اثار العجلات مما اضاع علينا الاثر.

اثناء تلك اللحظات سمعنا انفجارا قويا، ورأينا الدخان يتصاعد في جهة الشمال، وادركنا انهم رفاقنا نفذوا المهمة حيث تم تفجير الانابيب. في منتهى النظر ظهر لنا امتداد الانابيب وكأنه طريق معبد وبينما نحن نصل، وجدنا المجموعة كلها صعدت في السيارات ولم يبقى الا الولي رحمه الله لا يزال واقفا، كانت سياراتان احداهما تحمل سلاح دوشكا وفيها خمسة مقاتلين والاخرى التي تحمل فريق الهندسة.

سألناهم عن الرفاق، قال لنا الولي اترون ذلك الغبار الذي يظهر في الافق باتجاه الشرق، تلك هي قوتنا ويقودها احمد القايد.

في تلك الاثناء تفاجأنا بوابل من القذائف يستهدفنا، واعتقدنا ان الطائرات قد تم تركيب اسحلة الرشاش عليها.

التفت احد الرفاق وصرخ قائلا لقد باغتونا انها (لبلانديات)، تاملنا الموقف، فإذا بها قوة من السيارات تتقدمها اسلحة الرشاش الثقيلة (لبلاندي)، وبعض الشاحنات التي تحمل الجنود، وكل ذلك يتقدم نحونا لانهم يدركون اننا قوة قليلة ولم نقدر على ردهم.

انطلقت سياراتنا الخمسة في ان واحد وقامت القوة الموريتانية بتفريقنا، حيث ذهبت سيارة وحدها وذهبت سيارتان في إتجاه والسيارتين الاخريتين في اتجاه آخر.

تمت مطاردتنا مسافة طويلة، وكنا نحاول ان نلتحق برفاقنا الذين ساروا امامنا.

في تلك الاثناء تعرضت أيضا لقواتنا التي انسحبت قبلنا دوريات موريتانية أخرى، واضطرها ذلك الى تغيير الإتجاه وتبادل النار معها، مما ادى الى تفريقها ايضا، واصبحت بيننا وبينهم القوة الموريتانية، فقدنا الأمل في الالتحاق بهم، وقررنا محاولة الابتعاد قدر الإمكان، وفي تلك الاثناء التحقت بنا سيارتين من سيارات مجموعتنا.

لما تأكدنا اننا ابتعدنا عن القوة الموريتانية، كان الوقت زوالا في عز الظهيرة، وقد توغلنا في منطقة اكشار نحن تلك السيارات الثلاثة، انتهت محروقات احدى السيارات، وتركناها حيث وزعنا ركابها بين السيارات الأخرى وواصلنا البحث عن رفاقنا سيارة الولي ومجموعة الهندسة وسيارة وليدة ورفيقه، في تلك البيداء الحارة والمكشوفة، لقد افترقنا معهم بالقرب من مكان الانفجار واعتقدنا انهم واصلوا الطريق والتحقوا بالقوة.

إنطلقنا في إتجاه الشرق عسى ان نلتحق بمن افترقنا معهم او بقوتنا الكبيرة.

#عملية_انواكشوط

…. يتبع ….

تحقيق بلاهي ولد عثمان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق