كتاب وآراء

فالرجل الذي عرف بأناقته وحسن منظره كان أيضا أنيقا بأفكاره ..

وهذه قصتي معه بلا روتوش ..

بعد دقائق من دخولنا مكتبه نظرت الى أعلى الجدار، كانت صور من ترأسوا المجلس الوطني منذ نشأته تزين الحائط، قلت له : ذلك الثالث الى اليمين يكون جدي. إلتفت المحفوظ ونظر إلى الأعلى ثم أعاد النظر إلي منبهرا : ماذا تقول. قلت له : نعم إنه جدي لأمي يحظيه ولد الخليل. أعاد المحفوظ سؤال صديقي عبدالله عن الأمر فأكد له أن الرجل يكون جدي، بعد مدة إلتحق بجلستنا عبد القادر الطالب عمر السفير الحالي بالجزائر وكان وقتها يشغل منصب الوزير الأول وكان أول ما أخبر به المحفوظ ضيفه هو أن يحظيه يكون جدي، بعد أن أنهينا اللقاء وخرج ليودعنا تجرأت وسألته : المحفوظ لماذا إستغربت كون يحظيه جدي؟ .. نظر إلي رحمه الله نظرة جدية مخيفة وقال : لقد توفي جدك على العهد، رجل بسيط مناضل ومحبوب لا يملك إلا القناعة.

وبعد أشهر قليلة وذات جمعة كجمعتنا هذه سيرحل المحفوظ بنفس الطريقة، رجل بسيط متواضع ومحبوب وسيظهر أنه ما كان يملك سوى القناعة الراسخة .. ” ..

ذات صيف حار و مع سنوات الراحل الأخيرة، كنت رفقة صديقي ورفيق دربي عبد الله احمين، عزمنا وقتها على إنتاج فيلم وثائقي قصير عن الشهيد الولي مصطفى السيد بالتعاون مع مخرج جزائري وهو صديق عزيز كان له فضل إقتراح الفكرة، فشخصيا لم اكن أملك وقتها أي تجربة في الإخراج -تلك التجربة لاتزال متواضعة حتى اليوم- وكذلك كان زميلي عبدالله فلقد كنا ولازلنا مجرد هواة مغامرين ..
وضعت قائمة بأسماء من رأينا أنه من الضروري أخذ تصريحات لهم لمساعدتنا في إنتاج الفيلم، كان أغلبهم قياديين بارزين في البوليساريو و بالتأكيد كانوا رفاقا لشهيد الحرية والكرامة الولي مصطفى السيد ولعل أهمهم وأقربهم إلى قلبي وأكثرهم قربا إلى قلوب كل المواطنين كان الرجل الذي رحل عنا فجأة ذات صيف حار من الألفية الجديدة، المحفوظ علي بيبا ..
لم يكن المحفوظ علي بيبا مجرد قيادي بارز أو مفاوض بارع لكنه أيضا كان ذلك الرجل الطيب البسيط الذي لا يحب التكلم كثيرا ولا الظهور أمام الكاميرات ولا خطف الأضواء، لقد كان فقيد الأمة والقضية رجلا متواضعا شهما مترفعا وصدوقا، فحين إلتقيته وصديقي عبدالله بمقر المجلس الوطني “البرلمان” لإجراء لقاء معه خاص بالفيلم وكنا وقتها نخاف ان يرفض، فرح الرجل كثيرا وتحمس للفكرة وقال لنا رحمة الله عليه : أنه سعيدا برؤية شباب في مقتبل العمر متحمسون لتحويل فكرة كبيرة إلى حقيقة واقعية بإنتاج فيلم عن شاب ناضل وأعلن الثورة والدولة وأستشهد من أجل قضيته قبل حتى أن يبلغ الثلاثين من العمر.
أخبرني أنه سيخصص يوم عطلته الجمعة للقائنا وتسجيل التصريح الذي نريد، وفعلا كان الرجل في الميعاد وكنا أيضا، حيث إستقبلنا في مقر المجلس الذي يرأسه بمدرسة 9 يونيو الوطنية، وجدنا الرجل الذي كنا نعتقد أنه بالكاد سيتحدث أو ينظر إلينا في إستقبالنا، فمن نحن؟ ومن هو؟.
لم تكن لنا به سابق معرفة ولا لقاء قبل يوم عرض الفكرة، إستقبلنا بكل ما تقتضيه ضيافة أي مسؤول رفيع المستوى أو ضيف عزيز، وجدنا الرجل في قاعة الاستقبال حيث إعتقدنا في البداية أننا لسنا وحدنا الذين لهم ميعاد معه وكنا متأكدين أن شخصا أو وفدا مهما على وشك الوصول، فالحفاوة لم تكن لتوحي لنا بغير ذلك الإعتقاد، لكن الوقت كان يمر وعرفنا أن كل مظاهر الضيافة التي رأيناها ولمسناها من الاستقبال البروتوكولي الذي خصصه لنا ووجبة الغذاء التي أقامها على شرفنا، كل ذلك لم يكن سوى على شرفنا وحدنا.
كان الرجل طيبا إلى أبعد الحدود وبسيطا جدا، قضينا معه وقتا ثمينا وصورنا التصريح الذي كنا نريد حيث تحدث الرجل عن رفيق دربه الشهيد الولي مصطفى السيد بتأثر بالغ، بعد ذلك جلسنا جلسة بسيطة على مأدبة الشاي حيث سألني وصديقي عن الأهل.
كان المحفوظ يعرف كل الصحراويين، فقد تحدث عن أبي وأب صديقي وكان يعرفهم جيدا، كان يعرف أيضا أقاربنا وأصدقاءنا وتقريبا كل من ذكرناهم في تلك الجلسة او أتينا على سيرتهم كان المحفوظ يعرفهم، سأل عن أحوالنا وعن أحوال الأهل بتواضع كبير ولم يذكر أحدا أبدا بالسوء كان كلما سألنا عن أحد إلا وقال : فلان وخيرت بيه.
لم ألتقيه بعد ذلك إلا نادرا فقد كان كل وقت الرجل لقضيته، تراه مفاوضا يجوب أقطار العالم للتعريف بقضيته وتراه تارة يمارس مهامه على كثرتها كرئيس للمجلس الوطني يحضر كل أو أغلب الجلسات وعلى طولها وكثرتها كما تراه يحضر اجتماعات الأمانة الوطنية ومكتبها الدائم، ترى الرجل يحضر المحافل والذكريات داخليا وخارجيا، تراه يشرف على تخرج دفعات جديدة من الشبان الملتحقين بجيش التحرير الشعبي الصحراوي، وترى الرجل الطيب أيضا وعلى كثرة مهامه وجسامتها جالسا على مأدبة الشاي في خيمة صديق أو زميل أو أي مواطن بسيط.
لم يكن المحفوظ الذي سيظل محفوظا في قلوبنا كثير الكلام ولكنه حين يتكلم كان يقول الحقيقة دون تحفظ، كان الرجل قليل التصريحات ولكن حين تحدث مرة في أحد القنوات التلفزيونية الفضائية العربية قال بكل صدق وجرأة : سأقبل نتيجة الاستفتاء إذا أتيح للصحراويين التعبير عن خيارهم الحر بكل حرية وشفافية حتى ولو إختاروا الانضمام للمغرب لكنني لن أنضم إلى المغرب لو حدث وأختار الشعب الصحراوي هذا الخيار رغم أن كل أفراد عائلتي في المناطق المحتلة ولم ارهم منذ زمن بعيد.
وفعلا رحل الرجل في صمت في يوم جمعة بين أفراد شعبه البسيط في خيمته المتواضعة بعيدا عن الضجيج ومكبرات الصوت، رحل الرجل ولم ينضم إلى المغرب لا قبل ولا بعد أن يختار الصحراويون خيارهم الحر الذي كان المحفوظ أكثر الناس معرفة به وعلى قناعة بتجسيده، لقد كان المحفوظ على قناعة تامة وهو الذي فاوض الأعداء أكثر من مرة ولم يتنازل قيد أنملة، كان على قناعة أن الصحراويين لن يختاروا الانضمام للمغرب في أي يوم ولن يجبرهم أحد على ذلك، كان على قناعة أن يوم الحرية آت وأن الأجيال اللاحقة ستكون أكثر تشبثا بحقها وإرث آباءها وقد كان المحفوظ واحدا من أعظم الآباء والمناضلين وسنفتخر دائما بشخصه وتاريخه.
كنت دائما أبعث له رحمه الله بكتاباتي التي كانت في أغلبها كتابات بل خربشات “مشاكسة” تنتقد بعض السياسات وحين يقرأها كان دوما يرد علي بأنه يثق في قدرة الشباب وفي حيوية الشباب ومعجب بأفكار الشباب وعلى ثقة بوطنيته وكان نعم الأب والصديق والناصح، فالرجل الذي عرف بأناقته وحسن منظره ولباسه ونظافته وطيبة رائحته كان أيضا أنيقا بأفكاره بارعا بأسلوبه مقنعا بحديثه مهما إختلفت معه حول بعض الجزئيات.
فرحمك الله أيها الطيب وأسكنك فسيح جناته مع الشهداء الصديقين ..
بقلم : عبداتي الرشيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق